البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما لأنهما كانا شيخين كبيرين ، فلم يستطيعا السجود ، وتفرقت قريش ، وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذّكر ، وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإن جعل لها محمد نصيبا فنحن معه فلما أمسى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أتاه جبريل ، فقال : يا محمد ماذا صنعت تلوت على النّاس ما لم أنزل به عن الله عزوجل (١) ، وقلت ما لم أقل لك؟ فحزن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حزنا شديدا ، وخاف من الله خوفا عظيما فأنزل الله هذه الآية يعزيه ، وكان به رحيما (٢).
قال ابن الخطيب : وأما أهل التحقيق فقالوا : هذه الرواية باطلة موضوعة لوجوه من القرآن والسنة والمعقول : أما القرآن فقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ)(٣) ، وقوله : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ)(٤) ، وقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(٥). فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية قوله : تلك الغرانيق العلى لكان قد ظهر كذب الله في الحال ، وذلك لا يقوله مسلم. وقوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً)(٦) وكلمة «كاد» عند بعضهم قريب (٧) أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل ، وقوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ)(٨) وكلمة «لو لا» لانتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فذلك دل (٩) على أن الركون (١٠) القليل لم يحصل ، وقوله: (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ)(١١) ، وقوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى)(١٢) وأما السنة : فروي عن محمد بن إسحاق أنه سئل عن هذه القصة (١٣) فقال : هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتابا.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (١٤) هذه (١٥) القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم قال : رواة هذه القصة مطعونون. وروى البخاري في صحيحه أنه ـ عليهالسلام (١٦) ـ قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والجن والإنس وليس فيه ذكر الغرانيق (١٧).
__________________
(١) في ب : عن الله تعالى.
(٢) انظر تفسير البغوي ٥ / ٦٠٠ ـ ٦٠١ ، أسباب النزول للواحدي ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٥٠ ـ ٥١.
(٣) [الحاقة : ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٦].
(٤) [يونس : ١٥].
(٥) [النجم : ٣ ، ٤].
(٦) [الإسراء : ٧٣].
(٧) في ب : قرب.
(٨) [الإسراء : ٧٤].
(٩) في ب : فدل ذلك.
(١٠) في ب : الركوب. وهو تحريف.
(١١) من قوله تعالى : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً»[الفرقان : ٣٢].
(١٢) [الأعلى : ٦].
(١٣) في الأصل : الصفة. وهو تحريف.
(١٤) تقدم.
(١٥) في ب : في هذه. وهو تحريف.
(١٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(١٧) عن ابن عباس ـ رضي الله عنه قال : سجد النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. أخرجه البخاري (التفسير) ٣ / ١٩٤.