وروي هذا الحديث من طرق كثيرة ، وليس فيها البتة ذكر الغرانيق. وأما المعقول فمن وجوه :
أحدها : أن من جوّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر (١) ، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.
وثانيها : أنه ـ عليهالسلام (٢) ـ ما كان عليه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة أمنا لأذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه ، وإنما كان يصلي ، إذا لم يحضروا ليلا أو في أوقات خلوة ، وذلك يبطل قولهم.
وثالثها : أن معاداتهم للرسول (٣) كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من غير أن يقفوا على حقيقة الأمر ، فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجّدا مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم.
ورابعها : قوله : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها ، فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات لئلا يلتبس القرآن بغيره ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا أولى.
وخامسها : أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه ، وجوزنا في كل الشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله تعالى : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(٤) فإنه لا فرق في العقل بين النقصان (٥) عن الوحي وبين الزيادة فيه.
فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة ، أكثر ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر ، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة. وأما من جهة التفصيل فالتمني جاء في اللغة لأمرين :
أحدهما : تمني القلب.
والثاني : القراءة ، قال الله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ)(٦) أي : إلا قراءة ، لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف ، وإنما يعلمه من القراءة.
وقال حسان (٧) :
٣٧٧٤ ـ تمنّى كتاب الله أوّل ليلة |
|
وآخرها لاقى حمام المقادر (٨) |
__________________
(١) فقد كفر : سقط من ب.
(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(٣) في ب : الرسول.
(٤) [المائدة : ٦٧].
(٥) في ب : فإنه لا فرق بين العقل والنقصان وهو تحريف.
(٦) [البقرة : ٧٨].
(٧) تقدم.
(٨) في المخطوط : المغالب. والبيت من بحر الطويل وقد تقدم ويروى : «أول ليله ـ وآخره». ـ