وقوله : «فتصبح» استدل به بعضهم على أن الفاء لا تقتضي التعقيب ، قال : لأن اخضرارها متراخ عن إنزال الماء ، هذا بالمشاهدة.
وأجيب عن ذلك بما نقله عكرمة من أن أرض مكة وتهامة على ما ذكروا أنها تمطر الليلة فتصبح الأرض غدوة خضرة ، فالفاء على بابها (١). قال ابن عطية : شاهدت هذا في السوس (٢) الأقصى نزل المطر ليلا بعد قحط فأصبحت تلك الأرض الرملة التي نسفتها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف (٣). وقيل : تراها (٤) كل شيء بحسبه (٥) ، وقيل : ثم جمل محذوفة قبل الفاء تقديره : فتهتز وتربو وتنبت ، بيّن ذلك قوله تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ)(٦) وهذا من الحذف الذي يدل عليه فحوى الكلام كقوله تعالى : (فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا (٧) الصِّدِّيقُ أَفْتِنا)(٨) إلى آخر القصة. و «تصبح» يجوز أن تكون الناقصة وأن تكون التامة «مخضرّة» حال قاله أبو البقاء (٩). وفيه بعد عن المعنى إذ يصير التقدير فتدخل الأرض في وقت الصباح على هذه الحال. ويجوز فيها أيضا أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بهذا الزمن الخاص ، وإنما خص هذا الوقت لأن الخضرة والبساتين أبهج ما ترى فيه ويجوز أن تكون بمعنى تصير. وقرأ العامة «مخضرّة» بضم الميم وتشديد الراء اسم فاعل من اخضرّت فهي مخضرّة ، والأصل مخضررة بكسر الراء الأولى فأدغمت في مثلها. وقرأ بعضهم «مخضرة» بفتح الميم وتخفيف الراء (١٠) بزنة مبقلة ومسبعة.
والمعنى : ذات خضروات وذات سباع وذات بقل.
ثم قال : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي : أنه (١١) رحيم بعباده ولرحمته فعل ذلك حتى عظم انتفاعهم به ، لأن الأرض إذا أصبحت مخضرة ، والسماء إذا أمطرت كان ذلك سببا لعيش الحيوان أجمع. ومعنى «خبير» أي ؛ عالم بمقادير مصالحهم فيفعل على قدر ذلك
__________________
(١) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٣١٤.
(٢) السّوس : واد في جنوب المغرب ١٨٠ كم ، ينبع في سفح طوبقال بالأطلس الأعلى. المنجد في الأعلام (٣١٤).
(٣) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣١٤ ـ ٣١٥.
(٤) في الأصل : تراخى. وهو تحريف.
(٥) وذلك أن الفاء تدل على الترتيب والتعقيب في كل شيء بحسبه ، نحو جاء زيد فعمرو ، أي عقبه بلا مهلة ، ويقال : تزوج فلان فولد له. إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل. ودخلت البصرة فبغداد ، إذ لم تقم في البصرة ولا بين البلدين. ومنه قوله تعالى : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً» المغني ١ / ١٦ ـ ١٦٢ ، الهمع ٢ / ١٣١.
(٦) [الحج : ٥].
(٧) أيها : سقط من ب.
(٨) [يوسف : ٤٥ ، ٤٦].
(٩) التبيان : ٢ / ٩٤٧.
(١٠) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣١٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٧.
(١١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٦٣.