وقوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) اعلم أن في هذا الاستثناء خلافا ، هل يعود لما تقدّمه من الجمل أم إلى الجملة الأخيرة فقط؟
وتكلم عليها من النحاة ابن مالك والمهاباذيّ (١) ، فاختار ابن مالك عوده إلى الجمل (٢) المتقدمة(٣) والمهاباذي إلى الأخيرة (٤).
وقال الزمخشري : رد شهادة القاذف معلّق عند أبي حنيفة ـ رحمهالله ـ باستيفاء الحدّ ، فإذا شهد قبل الحدّ أو قبل تمام استيفائه قبلت شهادته ، فإذا استوفي لم تقبل شهادته أبدا وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء.
وعند الشافعي ـ رحمهالله ـ يتعلّق ردّ شهادته بنفس القذف ، فإذا تاب عن القذف بأن رجع (٥) عنه عاد مقبول الشهادة ، وكلاهما متمسّك بالآية ، فأبو حنيفة ـ رحمهالله ـ جعل جزاء الشرط الذي هو الرمي : الجلد وردّ الشهادة عقيب الجلد على التأبيد ، وكانوا مردودي الشهادة عنده في أبدهم ، وهو مدّة حياتهم ، وجعل قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) كلاما مستأنفا غير داخل في حيز جزاء الشرط ، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية ، و (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) استثناء من «الفاسقين» ، ويدلّ عليه قوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). والشافعيّ ـ رحمهالله ـ جعل جزاء الشرط الجملتين أيضا
__________________
(١) هو أحمد بن عبد الله المهاباذي الضرير ، من تلاميذ عبد القاهر الجرجائي ، له شرح اللمع. بغية الوعاة ١ / ٣٢٠.
(٢) في النسختين : الجملة.
(٣) يفهم ذلك من كلام ابن مالك في التسهيل ، فإنه قال : (وإذا أمكن أن يشرك في حكم الاستثناء مع ما يليه غيره لم يقتصر عليه إن كان العامل واحدا ، وكذا إن كان غير واحد والمعمول واحد في المعنى) التسهيل (١٠٣).
(٤) واختار المهاباذي ذلك لاختلاف العوامل ، إذ لا يمكن حمل العوامل المختلفة في مستثنى واحد ، بناء على أن عامل المستثنى الأفعال السابقة دون (إلا) انظر الهمع ١ / ٢٢٧ وهذه المسألة وهي : إذا ورد الاستثناء بعد جمل عطف بعضها على بعض ، فهل يعود للكل ، فيها مذاهب : الأول وعليه ابن مالك : يعود للكل إلا أن يقوم دليل على إرادة البعض ، وسواء اختلف العامل في الجمل أم لا بناء على أن العامل في المستثنى إنما هو (إلا) لا الأفعال السابقة.
الثاني : أنه يعود للكل إن سبق الكل لغرض واحد ، نحو : حبست داري على أعمامي ، ووقفت بستاني على أخوالي ، وسبلت سقايتي لجيراني إلا أن يسافروا ، وإلا فللأخيرة فقط ، نحو : أكرم العلماء ، وحبس ديارك على أقاربك.
الثالث : إن عطف بالواو عاد للكل ، أو بالفاء أو ثم عاد للأخيرة فقط ، وعليه ابن الحاجب.
الرابع : أنه خاص بالجملة الأخيرة واختاره أبو حيان.
الخامس : إن اتحد العامل فللكل ، أو اختلف فللأخيرة خاصة إذ لا يمكن حمل العوامل المختلفة في مستثنى واحد ، وعليها المهاباذي ، بناء على أن عامل المستثنى الأفعال السابقة دون (إلا). الهمع ١ / ٢٢٧.
(٥) في النسختين : يرجع.