أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقدي (١) من جزع (٢) ظفار (٣) وقد انقطع ، فرجعت والتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط (٤) الذين كانوا يرحلون بي (٥) فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي ، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبّلن (٦) ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة (٧) من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة (٨) السن فظنوا أني في الهودج ، وذهبوا بالبعير ، ووجدت عقدي بعد ما استمرّت (٩) الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب فتيممت منزلي (١٠) الذي كنت فيه ، وظننت أنهم سيفقدوني ويعودون في طلبي ، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني (١١) من وراء الجيش يتبع أمتعة الناس يحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب شيء ، فلما رآني عرفني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه (١٢) حين عرفني ، فخمرت وجهي (١٣) بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته فوطىء على يديها ، فقمت إليها فركبتها ، وانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين (١٤) في نحر الظهيرة (١٥) وهم نزول ، وافتقدني
__________________
(١) العقد : القلادة تعلق في العنق للتزين بها. القاموس المحيط (عقد).
(٢) الجزع : الخرز اليماني ، وهو الذي فيه سواد وبياض تشبه به الأعين. القاموس المحيط ، اللسان (جزع).
(٣) ظفار : مدينة باليمن ، وهي مبنية على الكسر بدون تنوين في الأحوال كلها.
اللسان (ظفر) ، شرح النووي ١٧ / ١٠٤.
(٤) في النسختين : الرحل. الرهط : ما دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، وقيل : من سبعة إلى عشرة ، وما دون السبعة إلى الثلاث : نفر ، وقيل غير ذلك. اللسان (رهط).
(٥) يرحلون بي : أي يجعلون الرحل على البعير.
(٦) قال النووي : (قولها : «يهبّلن» ضبطوه على أوجه ، أشهرها : ضم الياء وفتح الهاء والباء المشددة ، أي : يثقلن بالشحم واللحم ، والثاني : يهبلن ، بفتح الياء والباء وإسكان الهاء بينهما ، والثالث : بفتح الياء وضم الباء الموحدة ، ويجوز بضم أوله وإسكان الهاء وكسر الموحدة) صحيح مسلم بشرح النووي ٧ / ١٠٤ ، وفي اللسان (هبل) : والمهبّل : الكثير اللحم المورم الوجه ، وقد هبّله اللحم : إذا كثر عليه وركب بعضه بعضا.
(٧) العلقة : أي القليل.
(٨) في الأصل : حدثة.
(٩) في ب : استمر.
(١٠) أي : قصدته.
(١١) صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني ، أبو عمرو ، وكان صحابيا فاضلا ، شهد الخندق والمشاهد كلها ، وهو الذي قال فيه أهل الإفك ما قالوا ، روى عن النبي صلىاللهعليهوسلم حديثين ، استشهد بأرمينية في خلافة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ سنة ١٩ ه ـ الأعلام ٣ / ٢٠٦.
(١٢) أي : بقوله : «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ». شرح النووي ١٧ / ١٠٥.
(١٣) أي : غطيته.
(١٤) الموغر : النازل وقت الوغرة ـ بفتح الواو وإسكان الغين ـ وهي شدة الحر. شرح النووي ١٧ / ١٠٥.
(١٥) نحر الظهيرة : وقت القائلة وشدة الحرّ حتى تبلغ الشمس منتهاها من الارتفاع. شرح النووي ١٧ / ١٠٥ ، اللسان (نحر).