فإن قيل : لم نكر (١) الماء في قوله : «من ماء» وعرفه في قوله : (مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)(٢)؟
فالجواب : جاء هاهنا منكرا لأنّ المعنى : خلق كلّ دابة من نوع من الماء مختصا بتلك الدابة ، وعرفه في قوله : (مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) لأنّ المقصود هناك : كونهم (٣) مخلوقين من هذا الجنس ، وهاهنا بيان أنّ ذلك الجنس ينقسم إلى أنواع كثيرة (٤).
قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي). إنما أطلق «من» على غير العاقل لاختلاطه بالعاقل في المفصّل ب «من» وهو (كُلَّ دَابَّةٍ)(٥). وكان التعبير ب «من» أولى ليوافق اللفظ (٦).
وقيل : لمّا وصفهم بما يوصف به العقلاء وهو المشي أطلق عليها «من» (٧) وفيه نظر ، لأن هذه الصفة ليست خاصة بالعقلاء ، بخلاف قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)(٨) ، وقوله :
٣٨٤٥ ـ أسرب القطا هل من يعير جناحه (٩) |
|
................. |
البيت.
وقد تقدّم خلاف القرّاء في (خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) في سورة «إبراهيم» (١٠).
واستعير المشي للزّحف (١١) على البطن ، كما استعير المشفر للشفة وبالعكس (١٢) ، كما قالوا في الأمر المستمر : قد مشى هذا الأمر ، ويقال : فلان ما يمشي له أمر (١٣). فإن قيل : لم حصر القسمة في هذه الثلاثة أنواع من المشي ، وقد تجد من يمشي على أكثر من
__________________
(١) في ب : ذكر. وهو تحريف.
(٢) من قوله تعالى : «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ» [الأنبياء : ٣٠].
(٣) كونهم : سقط من ب.
(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٦.
(٥) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٥٧.
(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٧٥.
(٧) المرجع السابق.
(٨) [النحل : ١٧].
(٩) صدر بيت من بحر الطويل ، قاله العباس بن الأحنف ، وعجزه :
لعلّي إلى من هويت أطير
السّرب : الجماعة من القطاة. والهمزة في (أسرب القطا) للنداء. القطا : طائر معروف ، واحدته قطاة والجمع قطوات وقطيات.
والشاهد فيه إطلاق (من) على غير العاقل ، لأنه لما نادى سرب القطا كما ينادى العاقل ، وطلب منها إعارة الجناح لأجل الطيران نحو محبوبته نزلها منزلة العقلاء. وقد تقدم.
(١٠) عند قوله تعالى : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ» [إبراهيم : ١٩]. وذكر ابن عادل هناك : قرأ الأخوان هنا : «خالق السموات والأرض» خالق اسم فاعل مضافا لما بعده ، والباقون «خلق» فعلا ماضيا ، ولذلك نصب «الأرض». و «كُلَّ دَابَّةٍ» وكسر «السموات» في قراءة الأخوين خفض ، وقراءة غيرهما نصب. انظر اللباب ٥ / ١٢٦.
(١١) في ب : الزحف.
(١٢) المشفر للبعير ، والشفة للإنسان. اللسان (شفر).
(١٣) الكشاف ٣ / ٨٠.