بحمده» (١) ، (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ)(٢). والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع ما يحدثه الله تعالى فيها من غير امتناع أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود (٣).
فإن قيل : هذا التأويل يبطله قوله تعالى (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ، فإن السجود بالمعنى المذكور عام في كل الناس ، فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصا من غير فائدة.
فالجواب من وجوه :
الأول : أن السجود بالمعنى المذكور وإن كان عاما في حق الكل إلا أن بعضهم تكبر وترك السجود في الظاهر ، فهذا الشخص ، وإن كان ساجدا بذاته لا يكون ساجدا بظاهره ، وأما المؤمن فإن ساجد (٤) بذاته وبظاهره ، فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر.
وثانيها : أن نقطع قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) عما قبله ، ثم فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أن تقدير الآية : ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد ، والثاني بمعنى العبادة ، وإنما فعلنا ذلك لقيام الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعا.
الثاني : أن يكون قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب ، لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله : (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ).
والثالث : أن يبالغ في تكثير الحقوق بالعذاب ، فيعطف «كثير» على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب.
وثالثها : أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعا يقول : المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة ، وفي حق الجمادات الانقياد (ومن ينكر ذلك فيقول : إن الله تكلم بهذه اللفظة مرتين ، فعنى بها في حق العقلاء الطاعة ، وفي حق الجمادات الانقياد (٥)) (٦) فإن قيل : قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عام فيدخل فيه الناس ، فلم قال (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) مرة أخرى؟
فالجواب : لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن كثيرا منهم يسجد طوعا دون كثير منهم فإنه يمتنع من ذلك ، وهم الذين حق عليهم العذاب (٧) وقال القفال : السجود هاهنا هو الخضوع والتذلل ،
__________________
(١) [الإسراء : ٤٤].
(٢) من قوله تعالى : «وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ» [الأنبياء : ٧٩].
(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠.
(٤) في ب : ساجدا. وهو تحريف.
(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠.
(٦) ما بين القوسين سقط من ب.
(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠ ـ ٢١.