سلمنا دلالته ، لكن أجمعنا على أن قوله : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) مشروط بأن لا يزيل ذلك الظلم بتوبة أو بطاعة هي أعظم من ذلك الظلم ، فيرجع حاصل الأمر إلى أن قوله : (يَظْلِمْ مِنْكُمْ) مشروط بأن لا يعاجل ما يزيله وعند هذا فنقول : هذا مسلم ، لكن لم قلتم : إنه لم يوجد ما يزيله؟ فإن العفو عندنا أحد الأمور الثلاثة التي تزيله ، وذلك هو أول المسألة سلمنا دلالته على ما قال ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف : ١٠٧].
فإن قيل : آيات (١) الوعيد أولى ، لأن السارق يقطع على سبيل التنكيل ، وإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب محبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال. قلنا : لا نسلم أنّ السارق يقطع على سبيل التنكيل ، ألا ترى أنه لو تاب فإنه (لا) (٢) يقطع على سبيل التنكيل (بل على سبيل المحنة) (٢). نزلنا عن هذه المقامات ، ولكن قوله تعالى : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) خطاب مع قوم مخصوصين معينين ، فهب أنه لا يعفو عن غيرهم (٣).
قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الآية هذا جواب عن قولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٧] أي : هذه عادة مستمرة من الله تعالى في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن (٤).
قوله : (إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ) حق الكلام أن يقال : إلّا أنّهم. بفتح الألف ، لأنه متوسط ، والمكسورة لا تليق إلّا بالابتداء ، فلهذا ذكروا في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها في محل نصب صفة لمفعول محذوف ، فقدره الزجاج (٥) والزمخشري (٦) : «وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين». وإنما حذف ، لأن في قوله : (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) دليلا عليه (٧) ، نظيره قوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] بمعنى : ما منّا أحد (٨). وقدره ابن عطية : رجالا أو رسلا (٩). والضمير في «إنّهم» (١٠) وما بعده عائد على (١١) هذا الموصوف (١٢) المحذوف (١٣).
والثاني : قال الفراء : إنها لا محل لها من الإعراب ، وإنما هي صلة لموصول
__________________
(١) في ب : بأن.
(٢) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٤ ـ ٦٥.
(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٥.
(٥) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٦٢.
(٦) الكشاف ٣ / ٩٣.
(٧) أي : إنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور ، وهو «مِنَ الْمُرْسَلِينَ».
(٨) انظر الكشاف ٣ / ٩٣.
(٩) تفسير ابن عطية ١١ / ٢١.
(١٠) في ب : إنه. وهو تحريف.
(١١) في ب : في. وهو تحريف.
(١٢) في النسختين : الموصول.
(١٣) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٢١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٠.