والرابع : قالوا : الهزيمة ، قال تعالى : (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) [سورة الأنفال آية : ١٥ ـ ١٦] ، يعني : الهزيمة عنهم ، ومصدر هذا التولية ، وليس بالتولي ، نهى الله تعالى المؤمنين أن يولوا الكفار أدبارهم في القتال إلا أن ينحرف أحدهم من موضع لا يمكنه فيه الضرب والطعن إلى موضع يمكنه فيه ذلك ، أو أن يضيق عليه فليلتجئ إلى جماعة من المسلمين ، فينضافوا معه على مدافعة العدو ، ومن يولي عن العدو على غير هذين الوجهين فقد باء بغضب من الله ، أي : استحق الغضب من الله مقابلة بقبيح فعله ، وهو من البواء في القتل ، وهو أن يقتل بالرجل كفوه.
قال أبو بكر الرازي رحمهالله : " وهذا الحكم عندنا ثابت ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثنى عشر ألقا ، فإذا بلغ ذلك فليس لهم أن ينهزموا عن مثلهم إلا متحرفين لقتال" ، والحجة حديث ابن عباس عنه عليهالسلام" خير الأصحاب أربعة ، وخير السرايا أربعة مائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ، ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة" (١) ، وسأل رجل مالكا ، فقال : أيسعنا قتال من خرج من أحكام الله وحكم بغيرها ، فقال مالك : إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف ، وإلا فأنت في سعة من ذلك.
وقال بعضهم : هذه الآية في أهل بدر ؛ وليس الفرار من الزحف كبيرة ، وهذا غلط ، لأن النفي عام ، وليس لأحد تخصيصه ، ولا يكون المجمل إلا على العموم ، وقيل : هذا الوعيد لازم لمن فر عن الزحف حبا للحياة ، فأما من لم يجد بدا من الفرار فهو في سعة.
والزحف : السير الثقيل ، وبه يوصف العساكر ، لأنها إذا دنت من العدو ، سارت على تعبئة ، وسير الجماعة المعبأة رويدا.
الخامس : بمعنى ولاية الأمر ، قال : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ) [سورة النور آية : ١١] ، بالكسر ، أي : تولى الإثم فيه ، كأنه صار صاحب الإثم فيه ، وقرئ كبره ، أي : معظمه ، وكبر الشيء : معظمه ، وكذلك كبره : لغتان ، وقيل كبر : مصدر الكبير من الأمور ، وكبر : مصدر الكبير السن ، مثل : الكبر ، والكبر : الكبير أيضا.
__________________
(١) أخرجه أحمد في مسنده من حديث ابن عباس (٢٧١٣) ، والدارمي (٢٤٣٨) ، وأبو يعلى في مسنده (٢٧١٤) ، والبيهقي في السنن الكبرى ج ٩ / ١٥٦.