الغيب
أصل الغيب الستر ، وغيبت الشيء في التراب ؛ إذا سترته فيه ، والغيب : ما استتر عنك ، وأصله ما سترك من قولك : نحن في غيب هذا الوادي ؛ أي : حيث يستتر به ، وكل ما ستر شيئا فهو غيابة ، ومنه غيابة الجب.
والغيب في القرآن على ثلاثة أوجه :
الأول : الخلوة ؛ قال الله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)(١) [سورة البقرة آية : ٣] يعني : أنهم يخلصون العمل في خلواتهم خلاف المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون ، وقيل :
__________________
(١) قال الرازي : في قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) قولان : الأول : وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني أن قوله : (بِالْغَيْبِ) صفة المؤمنين معناه أنهم يؤمنون بالله حال الغيب كما يؤمنون به حال الحضور ، لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزءون. ونظيره قوله تعالى : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)[يوسف : ٥٢] ويقول الرجل لغيره : نعم الصديق لك فلان بظهر الغيب ، وكل ذلك مدح للمؤمنين بكون ظاهرهم موافقا لباطنهم ومباينتهم لحال المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والثاني : وهو قول جمهور المفسرين أن الغيب هو الذي يكون غائبا عن الحاسة ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل ، وإلى ما ليس عليه دليل. فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب الذي دل عليه دليل بأن يتفكروا ويستدلوا فيؤمنوا به ، وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله تعالى وبصفاته والعلم بالآخرة والعلم بالنبوة والعلم بالأحكام وبالشرائع فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقة فيصلح أن يكون سببا لاستحقاق الثناء العظيم. واحتج أبو مسلم على قوله بأمور : الأول : أن قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)[البقرة : ٤] إيمان بالأشياء الغائبة فلو كان المراد من قوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه ، وأنه غير جائز : الثاني : لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب ، وهو خلاف قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ)[الأنعام : ٥٩] أما لو فسرنا الآية بما قلنا لا يلزم هذا المحذور الثالث : لفظ الغيب إنما يجوز إطلاقه على من يجوز عليه الحضور ، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله تعالى وصفاته ، فقوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذات الله تعالى وصفاته ، ولا يبقى فيه إلا الإيمان بالآخرة ، وذلك غير جائز لأن الركن العظيم في الإيمان هو الإيمان بذات الله وصفاته ، فكيف يجوز حمل اللفظ على معنى يقتضي خروج الأصل أما لو حملناه على التفسير الذي اخترناه لم يلزمنا هذا المحذور.
والجواب عن الأول : أن قوله : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) يتناول الإيمان بالغائبات على الإجمال ثم بعد ذلك قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) يتناول الإيمان ببعض الغائبات فكان هذا من