أولها : الجماعة ، قال الله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [سورة البقرة آية ١٢٨] ، أي : جماعة ، ومثله : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) [سورة البقرة آية ١٢٤] ، وقوله تعالى : (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) [سورة آل عمران آية ١١٣] ، وقوله : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) [سورة المائدة آية ٦٦] ، وقوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ) [سورة الأعراف آية ١٥٩].
الثاني : الملة ، قال الله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [سورة البقرة آية ٢١٣]. يعني : أهل أمة واحدة ، أي : ملة ؛ فحذف لبيان المعنى (١) ، كما قال : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف آية ٨٢].
وسميت الملة أمة ؛ لاجتماع أهلها عليها ، ويجوز أن يقال : أنها سميت أمة ؛ لأنها تقصد وتتبع.
والمراد أن الناس كانوا على الكفر فيما بين آدم ونوح ، أو فيما بين نوح وإبراهيم ، فبعث الله النبيين عليهمالسلام بالأوامر والنواهي والبشارات والزواجر ، : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) [سورة البقرة آية ٢١٣] ، أي : الذي فيه الحق ؛ ليكون فصلا بين المختلفين بما فيه من التمييز بين الصواب والخطأ ، وهو مثل قولك : ذهب به ، وخرج به ، وما أشبهه (٢).
__________________
(١) وأصل" الأمة" ، الجماعة تجتمع على دين واحد ، ثم يكتفى بالخبر عن" الأمة" من الخبر عن" الدين" ، لدلالتها عليه ، كما قال جل ثناؤه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [سورة المائدة : ٤٨ سورة النحل : ٩٣] ، يراد به أهل دين واحد وملة واحدة. فوجه ابن عباس في تأويله قوله : " كان الناس أمة واحدة" ، إلى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتى اختلفوا.
(٢) جائز أن يكون كان ذلك حين عرض على آدم خلقه. وجائز أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك ـ ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة على أيّ هذه الأوقات كان ذلك. فغير جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عزوجل : من أن الناس كانوا أمة واحدة ، فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياء والرسل. ولا يضرّنا الجهل بوقت ذلك ، كما لا ينفعنا العلم به ، إذا لم يكن العلم به لله طاعة ، غير أنه أي ذلك كان ، فإن دليل القرآن واضح على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة ، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به. وذلك إن الله جل وعز قال في السورة التي يذكر فيها" يونس" : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [يونس : ١٩]. فتوعّد جل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع ، ولا على كونهم أمة واحدة ، ولو كان اجتماعهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك ، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان ، ولو كان ذلك كذلك