فأين قوانين النظم العسكرية والمصارف والبنوك والاقتصاد والإدارة وغيرها؟ وهذا الإشكال وقعت فيه المذاهب الإسلامية الأُخرى وإن هم أنكروا على العلمانيين الغربيين والعلمانيين المسلمين ، بل كفّروهم أو حكموا بضلالهم ، ولكنّهم يتبنّون نفس المعنى وإن اختلف اللفظ ، فهم يتخبّطون في فهم قوله تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء ) (١) بعد أن أقرّوا أنّ القرآن ليس تبياناً لكل شيء من أُمور الدنيا ، فبعضهم قال : إنّ القرآن ليس فيه تبيان لكل شيء من الدين والدنيا ، وإنّما فقط من الدين ، مع أنّ بعض المفسّرين كالمفسّر الطنطاوي له تفسير يبيّن فيه المعجزات العلمية العديدة التي ذكرها القرآن ثمّ أثبتها العلم بعد عدّة قرون.
والذين قالوا : إنّ القرآن فيه كل شيء من الدين اصطدموا بأنّ القرآن ليس فيه كل شيء من الدين ، فيقول البعض ـ متوسّلا في الخروج من هذه المشكلة ـ : إنّ السنّة النبوية داخلة في هذا النطاق ; لقوله تعالى : ( مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (٢) ، فتكون السنة النبوية داخلة في تبيان لكل شيء المذكور في الآية الكريمة ، وعندما رأوا أنّ السنة ليس فيها تبيان لكل شيء ضمّوا لهما الإجماع باعتبار مصدراً من مصادر التشريع ، وأنّه حجّة ، ولكن هذا لم يحل المشكلة ، ثم ضمّوا القياس والظن والرأي (٣).
ومن هنا فإنّهم وقعوا في مشكلة أنّ القرآن والسنة ليس فيهما تبيان لكل أُمور الدين ـ فضلا عن الدنيا ـ ففتحوا باب العقول والتجارب البشرية ، وهذا عين ما يدعو إليه العلمانيون ، وهم كفّروا نصر حامد أبو زيد ، ونحن لسنا بصدد تصحيح مسلكه ، ولكن نقول : إنّ ما طرحه هو تتبنّونه أنتم وإن اختلف اللفظ ، وحكمت
__________________
١ ـ النحل (١٦) : ٨٩.
٢ ـ الحشر (٥٩) : ٧.
٣ ـ روح المعاني ٧ : ٤٥٢ ، ذيل سورة النحل (١٦) : ٨٩.