وما كان حبسه ـ وإن كان له سبب معروف ـ إلّا ناشئا عن الحسد ؛ بأمارة أنّه قال له : غرّك قول النّاس : ما في الدّنيا مثل بكّار.
وقيل للقاضي إسماعيل بن إسحاق المالكيّ (١) : ألا تؤلّف كتابا في آداب القضاء؟
فقال : وهل للقضاء من أدب غير العدل؟ اعدل ومدّ رجليك في مجلس القضاء. أو ما هذا معناه. فمثّل بين هذا وبين ما أسلفناه عن القضاء في المكلّا.
وقال سعيد بن شريك في خطبته : (أيّها النّاس ، إنّ الإسلام حائط منيع ، وباب وثيق ، فحائطه الحقّ ، وبابه العدل. ولا يزال الإسلام منيعا ما اشتدّ السّلطان ، وليس شدّته القتل بالسّيف ، والضّرب بالسّوط ، لكن قضاء بالحقّ وأخذ بالعدل).
وقوله : (اعدل ومدّ رجليك .. إلخ) شبيه بما يؤثر عن بعض ملوك الهند في الموضوع.
وفي عهد عليّ للأشتر ما نصّه : ثمّ اختر للحكم بين النّاس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأمور ، ولا تمحكه الخصوم (٢) ، ولا يتمادى في الزّلّة ، ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه ، ولا تشرف نفسه على طمع ، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ، وأوقفهم في الشّبهات ، وآخذهم بالحجج ، وأقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم ، وأصبرهم على تكشّف الأمور ، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم.
ويروى أنّ معاوية كثيرا ما ينشد إذا اجتمع النّاس قول سعيد بن غريض أخي السّموءل [من السّريع] :
إنّا إذا جارت دواعي الهوى |
|
وأنصت السّامع للقائل |
واعتلج القوم بألبابهم |
|
في المنطق القائل والفاصل |
لا نجعل الباطل حقّا ولا |
|
نلطّ دون الحقّ بالباطل |
__________________
(١) هو القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الجهضمي الأزدي المالكي ، ولد سنة (٢٠٠ ه) ، وتوفي سنة (٢٨٢ ه) ، وبيت حماد بن زيد هم الذين نشروا مذهب مالك في العراق ، تردد العلم في بيوتهم (٣٠٠) عام ، وكان القاضي إسماعيل هو الباعث للمبرّد على تأليف كتابه «التعازي والمراثي». ترجمته في «الديباج المذهب» (٩٢) ، «تاريخ بغداد» (٦ / ٢٨٤).
(٢) تمحكه الخصوم : قال ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» : تجعله ماحكا ؛ أي : لجوجا.