والبيت الأوّل شبيه بقول عبد الله بن الحرّ [من الطّويل] :
إذا خرجوا من غمرة رجعوا لها |
|
بأسيافهم والّطعن حتّى تفرّجا |
وهو من قصيدة قالها وهو في حبس مصعب بن الزّبير.
لقد كانت يافع على أحسن ما كانت العرب عليه من الوفاء بالذّمم ، وصدق الكلم ، وبعد الهمم ، إلّا أنّهم بالآخرة بغوا وتكبّروا ، وكثر من سفهائهم الظّلم ، والجور والفساد ، وما أحسن قول أبي تمّام [في «ديوانه» : ٢ / ٩٨ من البسيط] :
لا تجعلوا البغي ظهرا إنّه جمل |
|
من القطيعة يرعى وادي النّقم (١) |
نظرت في السّير اللّاتي خلت فإذا |
|
أيّامه أكلت باكورة الأمم |
أفنى جديسا وطسما كلّها وسطا |
|
بالأنجم الزّهر من عاد ومن إرم |
أردى كليبا وهمّاما وهاج به |
|
يوم الذّنائب والتّحلاق للّمم (٢) |
يا عثرة ما وقيتم شرّ مصرعها |
|
وزلّة الرّأي تنسي زلّة القدم |
__________________
(١) الظّهر : ما يركب فوقه ويحمّل عليه الأمتعة من الحيوانات. والمعنى : لا تبغوا وتجعلوا البغي كالجمل الّذي تحمّلون عليه متاعكم ؛ لأنّه كالجمل غير الذّلول ، وربّما أكل صاحبه.
(٢) كليب : هو كليب وائل ، أخو المهلهل (الزّير سالم) ، وهو الّذي كانت تضرب الأمثال بعزّته.
همّام : هو ابن مرّة من بكر ، وهو الّذي طلب التغلبيّون أن يقتلوه بكليب الّذي قتله جسّاس بن مرّة.
يوم الذّنائب : يوم ظفر فيه بنو تغلب على بني بكر. تحلاق اللّمم : هو اليوم الّذي ظفر فيه الحارث بن عباد على بني تغلب ؛ من أجل أنّ الزّير سالم (المهلهل) قتل بجير بن الحارث هذا.
مع العلم أنّ الحارث بن عباد كان من حكماء العرب ، وقد اعتزل حرب البسوس من أوّلها ، وقال : (لا ناقة لي فيها ولا جمل) فغدا كلامه مثلا.
ثمّ لمّا أكثر المهلهل وأسرف في القتل .. جاءت وفود العرب إلى الحارث هذا ، وطلبوا منه أن يكلّم المهلهل في ذلك .. فأرسل ابنه رسولا للمهلهل في كتاب ، وقال في آخر الكتاب : (وإن لم يكن قلبك قد اشتفى بقتلك من قتلت .. فاقتل ابني بجيرا بكليب ، وأنه الحرب ، وتكون قد قتلت ملكا بملك) .. فثار عند ذلك غضب المهلهل ، وطعن بجيرا في بطنه وقال : (بؤ .. بشسع نعل كليب).
ولمّا بلغ الحارث بن عباد هذا الكلام .. طار لبّه ، وفقد رشده ، وثار ونادى بالحرب ، وارتجل قصيدته المشهورة ، الّتي كرّر فيها قوله : (قرّبا مربط النّعامة منّي) أكثر من خمسين مرّة ، والنّعامة : اسم فرسه ، فجاؤوه بها ، فجزّ ناصيتها ، وقطع ذنبها ـ وهو أوّل من فعل ذلك من العرب فاتّخذ سنّة عند إرادة الأخذ بالثّأر ـ وأمر جميع من معه بأن يحلقوا لممهم ـ ومن هنا سمّيت المعركة هذه باسم :