وما ألذّ ما تسمع آيات القرآن من لسانه في الصّلاة الجهريّة ، بصوته الجهير ، ونغمته الشّجيّة ، غضّة طريّة ، تكاد تنتزع القلوب من أماكنها ، ويخيّل لهم أنّهم لم يسمعوها من قبل ، وأنّها إنّما نزلت تلك السّاعة ، حتّى ليحسب المقتدون بما يشملهم من اللّذّة ويغمرهم من الهيبة ويستولي عليهم من الخشوع أن قد انفصلوا عن عالم الحسّ ، والتحقوا بعوالم القدس ، بحيث لا يمكن لمسبوق أن يقرأ (الفاتحة) من خلفه.
وأذكر أيّامي لديه فأنثني |
|
على كبدي من خشية أن تقطّعا (١) |
وما أذكر صلاة أشفى للنّفس ، وأجمع للقلب ، وأبرد للخاطر وأنفى للهمّ ، وأدنى إلى الإخلاص من صلواتي في الجهريّات خلفه ، وخلف شيخنا الفاضل الشّيخ حسن بن عوض بن زين مخدّم ، وصلواتي خلف الأستاذ الأبرّ جهريّة كانت أو سرّيّة ؛ فإنّه يسري إلينا سرّ من إخلاصه ، يلذّ لنا به التّطويل مطلقا.
وأذكر أنّ أوّل صلاة كانت لي بالمسجد الحرام لمّا حججنا في سنة (١٣٢٢ ه) هي الصّبح خلف واحد من العلماء ـ يدعى فيما أتوهّم خوقير ـ قرأ في الأولى بالتّين فكاد القلب يخرج عن شغافه عند إشارته إلى البلد بقوله : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) ثمّ ما كفاه حتّى قرأ في الثّانية سورة ـ (قريش) فلا تسل عمّا داخلني عند إشارته إلى البيت ـ وما بيننا وبينه إلّا ثمانية أذرع أو أقلّ ـ بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) فلو لا الاعتصام بالأجل .. لا لتحقت الرّوح بالباري عزّ وجلّ ، ولكنّي :
ضممت على قلبي يديّ مخافة |
|
وقد قرعته بالغطاة القوارع (٢) |
وما ينفع القلب الّذي طاش لبّه |
|
لتلك المعاني أن تضمّ الأصابع |
__________________
(١) البيت من الطّويل ، وهو للصّمّة بن عبد الله القشيريّ ، بتغيير بسيط.
(٢) البيتان من الطّويل ، وهما كما عند ابن نباتة السّعديّ :
أضمّ على قلبي يديّ مخافة |
|
إذا لاح لي برق من الشّرق لامع |
وما ينفع القلب الّذي بان إلفه |
|
إذا طار شوقا أن تضمّ الأضالع |