قلنا له : من هناك؟ قال : تجّار ببضائعهم يتأهّبون لقيام السّوق.
فأبقيناه مع أحدنا عند المطايا ، ولمّا قاربناهم .. ألفينا عندهم مهريا يحلب ناقة له ، فأرديناه وانتهبنا ستّين مطيّة مع ما قدرنا عليه من خفيف البضائع ، وضربنا آباط الإبل مساءها واليوم الثّاني وردهة من اللّيلة الثّانية ، فكلّ أصحابي وأرادوا التّعريس ، فنهيتهم فلم يسمعوا ، فأكلوا وأغفوا ، ولم يكد يطرقني النّوم من الذّعر حتّى انتبهت فقمت أعسّ (١) فشممت رائحة الوزيف (٢) من عرق جمال النّجدة ؛ لأنّها تأكل منه ، فأقبلت على أصحابي فسبقتني إليهم البنادق ، واعتصمت بأكمة ، وناديت القوم في أن يعود كلّ بحلاله ، فأجابني الشّوص أحد آل عليّ بن كثير وكان معهم فقال : انتظر حتّى نتشاور ، ولمّا ناديته مرّة أخرى .. قال : إنّ الّذين قتلتم أخاهم بالأمس وهو يحلب ناقته أبوا ؛ فجاء موضع قول أبي مكعب [من البسيط] :
إنّ الّذين قتلتم أمس سيّدهم |
|
لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما |
ولهذا البيت قصّة جاءت في (ج ١٠ ص ٢٥٠) من «خزانة الأدب».
وأمر جماعة أن يكمنوا لي على الطّريق ، وكان أحد أصحابي نجا براحلتين من النّهب ، فاقتعدناهما ، فلم يقدر علينا الكمين ؛ لأنّهما كما قال القطاميّ [من البسيط] :
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة |
|
ولا الصّدور على الأعجاز تتّكل |
وكانت هذه القضيّة في حدود سنة (١٣٥٠ ه) ، وآثار الصّدق لائحة عليها.
وفيها فوائد كثيرة ؛ أهمّها : أنّ الجبل لا ينتهي إلّا على قرب سيحوت حسبما قدّمنا ، وقد نقلنا في شرح البيت (٣٦) في الجزء الأوّل من «الأصل» عن أبي شكيل : (أنّ مدينة تريم في شمال لسعا ، وجبالها اثنان ممتدّان من الشّرق إلى الغرب ، فيها قوم من المهرة كالوحوش ، يتكلّمون بلغة عاد ، وإليهم تنسب الإبل المهريّة) اه
__________________
(١) أعسّ : أسير في الظلام أترقب المارة.
(٢) صغار السمك بعد تجفيفه.