وهو كآبائه ، محبّ بنفسه للعدل ، بعيد من الظّلم ، إلّا أنّه يرخي الأعنّة للحكّام وللعمّال. وبما عرفوا من انبنائه على العفو الواسع ، والحلم الشّامل .. أخذوا يتبسّطون في المظالم ، ونخاف أن يخلقوا له بأعمالهم الّتي هو منها براء بغضا في القلوب من دون جناية فعلية ، ولا نجاة من ذلك الخطر إلّا بأن يأخذ هو ووزيره بسيرة ابن الخطّاب في مراقبتهم وبثّ الأرصاد عليهم ، حتّى إنّه ليصبح وكأنّما بات مع كلّ واحد في فراشه ، تأتيه أخبارهم بدون غشّ في كلّ ممسى ومصبح ، ويقول : (لو ضاعت ناقة بشاطىء الفرات .. لكان المسؤول عنها آل الخطّاب) وما يعني إلا نفسه ، ويقول : (لو عثرت دابّة كانت التّبيعة عليّ) ، قيل له : (ولم) .. قال : (لأنّ من واجبي تعبيد الطّرقات) أو ما يقرب من هذا.
وتلك هي سيرة أزدشير بن بابك (١) ، وقد تقيّلها (٢) معاوية بن أبي سفيان ، وزياد بن أبيه (٣) ، فانتظمت الأمور ، واندفعت الشّرور ، وانعدم الجور ، وإنّني لأتمنّى أن يتسمّتها هذا السّلطان ووزيره ؛ لتثلج الصّدور ، وتبرد الخواطر ، وتبقى على انعقادها بمحبّتهم القلوب ؛ إذ لا أنصر للسّلطان من أفئدة تمتلىء بودّه ، وألسنة تهتف بشكره ، وفّقنا الله وإيّاهم لما فيه خير الإسلام والمسلمين.
ولقد كانت الحكومة القعيطيّة في أيّام السّيّد حسين بن حامد أحبّ من جهة إلى النّاس منها اليوم ، لا لأمن ينبسط ، ولا لعدل ينتشر ، ولا لخير يعمّ ، ولا لشرّ يندفع ، ولا لعطاء يرجى ، ولا لسيوف تخشى ، ولكن لخصلة واحدة ، وهي : جبر القلوب ، وأخذ الخواطر ، وحلاوة اللّسان ، والمقابلة بالتّرحيب والمعانقة ، وإن
__________________
(١) هو أحد ملوك الفرس ، عرف بالحكمة ، عاش في القرن الخامس قبل الميلاد. «دائرة المعارف» (١ / ١٦١).
(٢) تقيّل فلان أباه : نزع إليه في الشّبه ، والمقصود هنا : سار على نهجه شبرا بشبر ، وذراعا بذراع.
(٣) وممّا يروى في هذا أنّ رجلا كلّم زيادا في حاجة وجعل يتعرّف إليه ويظنّ أنّ زيادا لا يعرفه ، فقال : أنا فلان بن فلان ، فتبسّم زياد وقال له : أتتعرف إليّ وأنا أعرف بك منك بنفسك؟!! والله إنّي لأعرفك وأعرف أباك وأعرف أمّك وأعرف جدّك وجدّتك ، وأعرف هذه البردة الّتي عليك ، وهي لفلان ، وقد أعارك إيّاها. فبهت الرّجل وارتعد حتّى كاد يغشى عليه.