وقد قرأت على سيّدنا الأستاذ الأبرّ ، وسمعت منه ، وحضرت لديه ، وتكرّرت لي الإجازة والمصافحة والتّلقيم والإلباس منه ، وتلقّيت عنه المسلسلات بالفعل بعضا ، والإجازة في الباقي ، وأخلصني بدعائه ، وشملني باعتنائه ، وما ألذّ على لساني وقلمي من ثنائه ، ولله درّ المتنبّي في قوله [في «العكبري» ٣ / ٢٦١ من الكامل] :
ما دار في الحنك اللّسان وقلّبت |
|
قلما بأحسن من نثاك أنامل (١) |
وقد ذكرته في «الأصل» و «الدّيوان» بأكثر ممّا هنا ، وكلّه قليل ، لا يشتفي به الغليل ؛ لأنّ محاسنه الفضاء لا يقطعه نسر ، والكثير لا يشمله حصر.
وتحيّرت فيه الصّفات لأنّها |
|
ألفت طرائقه عليها تبعد (٢) |
وقد انتهت مناقب السّلف الصّالح إليه ، وما رأى النّاس إجماعا على فضل أحد مثل إجماعهم عليه.
ما زال منقطع القرين وقد أرى |
|
من لا يزال مشاكل يلقاه (٣) |
ليس التّفرّد بالسّيادة عندنا |
|
أن توجد الضّرباء والأشباه |
ثمّ إنّه لم يزل يعاني الآلام ، في ثبات الأعلام ، حتّى نزل به الحمام ، فاستدعى أهله وأولاده ، وشرب من ماء سقاهم فضله ، وودّعهم وأوصاهم ودعا لهم ، ثمّ أخذ الموت يلتاط به ، حتّى بردت أطرافه ، ونزل به قوم من آل أحمد بن زين الحبشيّ فأمر بتسخين يده كيلا ينكروا بردها ، وأذن لهم وقرأ الفاتحة ، ولمّا نهضوا .. عزم على الصّلاة ، فأريد على التّرخّص في الطّهارة لضعفه وموت أطرافه .. فقال : كيف آخذ بالتّوسعة وهذه آخر صلاتي في الدّنيا وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : «صلّ صلاة مودّع» (٤).
__________________
(١) نثاك : خبرك ، وهو هكذا بتقديم النّون. والمعنى ـ كما في «العكبريّ» ـ : ما تكلّم ولا كتب بأحسن من أخبارك.
(٢) البيت من الكامل ، وهو للمتنبي في «العكبري» (١ / ٣٣٣).
(٣) البيتان من الكامل ، وهما للبحتري في «ديوانه» (١ / ٣٣٧).
(٤) أخرجه ابن ماجه (٤١٧١) ، والطّبرانيّ في «الأوسط» (٤ / ٣٥٨).