لقد كانت بهم الفجير موضع العجّ والثّجّ (١) لا يشبهها إلّا منى في أيّام الحج ، فالشّفار من الذّبائح تسيل ، والطّهاة من المطابخ لا تميل.
يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم |
|
لا يسألون عن السّواد المقبل (٢) |
لا تخبو مصابيحهم طول اللّيل ، ثمّ بين ديارهم رباط الخيل ، أخبرني محفوظ هو يديّ بأنّه رأى ليلة الشّعبانيّة فيهم ثمانية عشر عنانا من جياد الصّافنات كلّهم بيض كرام ، لا يسودّ بينهم إلّا المطابخ والبرام (٣) ، ولا يعابون إلّا بمثل قول أبي هفّان [من المنسرح] :
عيب بني مخلد سماحتهم |
|
وأنّهم يتلفون ما ملكوا (٤) |
فلقد أطلق الجود ما بأيديهم ، حتّى صوّح ناديهم ، وأسرفوا في المكارم ، حتّى أثقلتهم المغارم.
كانت لهم همم فرّقن بينهم |
|
إذا القعايد عن أمثالها قعدوا (٥) |
فعل الجميل وتفريج الجليل وإع |
|
طاء الجزيل الّذي لم يعطه أحد |
__________________
(١) العجّ : رفع الأصوات. الثّجّ : سيلان دماء الذّبائح.
(٢) البيت من الكامل ، وهو لسيّدنا حسّان بن ثابت رضي الله عنه في «ديوانه» (٣٦٢). يغشون : يزارون ولا تخلو منازلهم من الأضياف. والمعنى : هم قوم كرام ، دائم الدّوم عندهم ضيوف ، فألفت كلابهم منظر الضّيفان وما عادت تنبح على أحد.
(٣) البرام : القدور ، جمع : (برمة).
(٤) ما أجمل العيوب إذا كانت هكذا ، وهذا ما يسمّيه علماء البلاغة ب (المدح بما يشبه الذّمّ) ؛ كقول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم |
|
بهنّ فلول من قراع الكتائب |
فأنت عندما تسمع (ولا عيب فيهم غير أنّ) تظنّ أنّه سيذكر بعد هذا صفة من الصّفات المعيبة ، ولكنّك تفاجأ بقوله : (إنّ سيوفهم قد تكسّرت والتوت من كثرة قتالهم الأعداء). وهذه صفة مدح ، فتعلم أنّه لم يذكر صفة مشينة بل ذكر صفة مدح بأسلوب عربيّ جميل وهو : أسلوب المدح بما يشبه الذّمّ.
(٥) البيتان من البسيط.