وإنما الكلام في وجود الدواعي العقلية ، وهي التي تدعو العاقل بما هو عاقل مجرد عن كل داع خارج عن العقل ، وهي دواعي الحسن والقبح.
فقد اشتهر النزاع بين العدلية والأشاعرة في ذلك. فادعى العدلية ثبوت الحسن والقبح في الأشياء في الجملة ، وأنكر ذلك الأشاعرة ، فليس الحسن والقبيح عندهم إلا ما حسّنه الشارع أو قبحه. وبدونه فالأشياء كلها على نحو واحد ليس فيها حسن ولا قبيح.
والحق الأول. وقد يستدل عليه بوجوه ، لعل الأولى الاقتصار على وجهين منها.
أولهما : الوجدان. فإن الإنسان بوجدانه المجرد عن شوائب الشبهات والأوهام ، والبعيد عن الدواعي الخارجية ـ الشهوية والغضبية وغيرها ـ يرى أن في الأفعال ما هو حسن ينبغي فعله ، ويمدح فاعله ـ كالصدق والوفاء والإحسان والإيثار ـ وما هو قبيح ينبغي تركه ويذم فاعله ـ كالكذب والخيانة وإيذاء الغير والتعدي عليه ـ وإنكار ذلك مكابرة لا يصغى إليها. وربما تبتني على شبهات أو عواطف تخرج بالإنسان عما يحسه ويدركه بضميره ووجدانه.
نعم لا إشكال في أن جهات الحسن والقبح في تلك الأفعال قد تزاحم بجهات تضادها ، فيكون المعيار في فعلية الداعوية على الأهمية ، كما هو الحال في جميع موارد تزاحم الداعويتين من سنخ واحد ، فالكذب الذي تندفع به مفسدة مهمة عقلا لا يخرج في الحقيقة عن القبح ، والصدق الذي يترتب عليه مفسدة مهمة لا يخرج عن الحسن ، بل تسقط داعوية قبح الأول وحسن الثاني بسبب أهمية داعوية الجهة المزاحمة المترتبة عليهما.
ولعل هذا هو مرادهم من أن الحسن والقبح في هذه الأمور عرضيان غير ذاتيين ، وأنها مقتضية لهما لا علة تامة. وإن كان ظاهرهم انقلابها عما هي عليه