وأمّا القول بالمؤاخذة على الإطلاق .. فجرأة على نبيّ الله موسى ، وعثرة لا ينبغي أن يقال لصاحبها : لعا (١).
أقول قولي هذا ببادىء الرّأي مع وجوب إعادة النّظر واستئناف العناية ؛ لأنّ المسألة ـ كما قرّرنا ـ أصوليّة لا فروعيّة ، فلا ينبغي فيها الاختلاف ، والله أعلم.
ولا يزال في نفسي شيء من قول فقهائنا : إنّ شرع من قبلنا ليس لنا بشرع وما كفاهم ذلك حتّى زادوا في الطّنبور نغمة بقولهم : وإن ورد في شرعنا ما يقرّره ؛ لأنّه مع تقليله لكثير من فوائد قصص التّنزيل وأخباره .. لا يتّفق مع قول الله تعالى في (الأنعام) : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)
ومخالف لقول النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في كسر رباعية الرّبيّع بنت معوذ : «كتاب الله القصاص» (٢) ووجه المخالفة أنّه لم يرد القصاص بالسّنّ إلّا في الكلام عن غير هذه الأمّة ؛ حيث يقول جلّ وعزّ : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ)(٣).
وكان السّيّد أحمد بن جعفر بن أحمد بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ (٤) أحد العلماء المحقّقين ، وكان على رأي ابن تيمية يجعل الثّلاث باللّفظ الواحد طلقة واحدة ، وكان له اتّصال وثيق بسيّدنا الحسن بن صالح البحر ، وقد أفتى مرّة بتوحيد الطّلاق ممّن نطق بالثّلاث في لفظ واحد ، فاشتدّ النّكير عليه ، حتّى انعقد لذلك مجلس بدار الحبيب البحر تقاطر له العلماء من دوعن ومن تريم وما بينهما ، ولم
__________________
(١) لعا : كلمة يدعى بها للعاثر ، معناها الارتفاع.
(٢) الحديث أخرجه البخاريّ (٤٣٣٥).
(٣) الجواب على هذا الإشكال ما قرره الحافظ تقي الدين السبكي في «الإبتهاج» بقوله : ليس الكلام فيما لم نعلمه إلا من كتبهم ونقل أحبارهم الكفار ؛ فإنه لا خلاف أن التكليف لا يقع به علينا ؛ ولا فيما علمنا بشرعنا أنه كان شرعا لهم ، وأمرنا في شرعنا بمثله ، كقوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، وقد قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) فإن الإجماع منعقد على التكليف به ، وإنما الخلاف فيما ثبت أنه من شرعهم بطريق صحيح نقبله ولم نؤمر به في شريعتنا. اه من تقريرات الشربيني على شرح «الجمع» (٢ / ٣٥٢).
(٤) توفي ليلة الجمعة (٢٦) محرّم سنة (١٢٨٩ ه) ، «العدة المفيدة» (٢ / ٣٢٦).