وكان في الجود آية ، وفي الشّفقة بالأيامى واليتامى والضّعاف غاية ، وإن كان جاهه الضّخم في آخر أيّامه ليدرّ عليه بالأموال الطّائلة من شرق الأرض وغربها ، ثمّ لا يبيت عنده دينار ولا درهم ، ولقد أراد جماعة من محبّيه أن يشتروا له عقارا .. فغضب عليهم.
وورده مرّة ألف ريال (١) فلم يمس منه شيء.
جود يحرّك منه كلّ عاطفة |
|
ورحمة رفرفت منه على الأمم (٢) |
ولقد كاد مع وقار ركنه يطير طربا عندما تمثّل له جدّي في مناسبة بقول جوبة بن النّضر [من البسيط] :
إنّا إذا اجتمعت يوما دراهمنا |
|
ظلّت إلى طرق المعروف تستبق |
لا يعرف الدّرهم المضروب صرّتنا |
|
لكن يمرّ عليها وهو منطلق |
لأنّ ذلك حاله رضوان الله عليه ، لا ينزل موضعا إلّا عمّه نورا ، وملأه سرورا.
إن ضنّ غيث أو خبا قمر |
|
فجبينه ويمينه البدل (٣) |
وله من التّحنّن على الفقراء ما من أمثلته : أنّ جدّي المحسن طلب يد بنته بهيّة ، فعمل لهم ضيافة حسب العادة ، وبينما هو في انتظارهم .. أطلّ من النّافذة ، فإذا الدّار محفوف بالنّظّارة من المساكين ، فأمر بإدخالهم وتقديم الطّعام لهم ، ثمّ لمّا أقبل جدّي بخيوله ومركبه وطبوله .. استأنف لهم الذّبائح والطّبخ. وله من هذا النّوع أمثال كثيرة ، يعظّم أهل الدّين ، ويكرم الفقراء والمساكين ، وإن كان الأغنياء والرّؤساء في مجلسه لأذلّ منهم في مجلس سفيان الثّوريّ ، وأخرج أبو نعيم [٦ / ٣٦٥] بسنده إلى عيسى بن يونس قال : (ما رأينا الأغنياء والسّلاطين في مجلس قطّ أحقر منهم في
__________________
(١) من الريالات الفرانصة (ماريا تريزا) المتداولة آنذاك.
(٢) البيت من البسيط ، وهو لأبي تمّام في «ديوانه» (٢ / ٩٧). باختلاف بسيط.
(٣) البيت من الكامل وهو للطّغرّائيّ في «ديوانه» ، وفيه لف ونشر مشوّش ، إذ ذكر في الشطر الأوّل الغيث والقمر ، ثمّ ذكر في الشّطر الثّاني الوجه واليمين ، ويناسب الغيث .. اليمين ، ويناسب القمر .. الوجه ، والله أعلم.