وبالحقيقة : أنّه أعان على نفسه بترفّعه عن أبناء جنسه بعد سلامته من تلك الحرب الضّروس الّتي فرّج الله عنه منها بالطّليان ، وخرج منها وقلوب النّاس معه ، وبعض أهل الخبرة لا يعيبه إلّا بسلامة صدر انطلى عليه بسببها غشّ جليس له لا يهمّه إلّا حمايته عن نصح العقلاء كيلا يشيروا عليه بإبعاده ، وقد ضاقت به الأرض ولم يجد ملجأ بحضرموت إلّا إليه.
واتّفق أنّ أحد السّيّاح الإنكليز أراد أن يمرّ بالطّريق الّتي تلي بحيره ، وهو قد حماها بعسكره كيلا تهرّب البضائع من ناحيتها بعدما جعل العشور ضربة لازب على كلّ وارد ، فمنعوا السّائح المرور ، ولمّا أظهر العناد .. أطلقوا عليه الرّصاص بقصد التّخويف ، ولكنّ الحكومة الإنكليزيّة رأت أنّ شرفها مسّ بذلك الإطلاق ، فأنذرته ، ثمّ جهّزت إليه جيشا عرمرما لم تعرف البلاد مثله ، يقوده الجنرال السّيّد أحمد بن محضار العيدروس (١) الآتي ذكره في بور ، فيه من المدافع الضّخمة ، والدّبّابات الهائلة ، والسّيّارات المصفّحة بالفولاذ ما تتفسخ له العقول ، ومع ذلك .. فقد ثبت وبقي يدافع ويطلق الرّصاص بدون جدوى ؛ لأنّه لا يؤثّر في تلك السّيّارات ، وانسلّ عنه لواذا (٢) كلّ من كان معه ، ما عدا قاضيه الشّيخ محفوظ المصلّي اليافعيّ (٣) ، وحينئذ بخع بتسليم نفسه ، فأركبوه على السّيّارة العسكريّة إلى مطار القطن ، حيث أخذوه بالطّائرة إلى عدن ، ولم يشمتوا به عدوّا ، ولم يؤلموا به صديقا ، ولم يمكّنوا أحدا من منافسيه ومبغضيه حتّى من النّظر إليه ، فشكر العقلاء من النّاس للدّولة الإنكليزيّة تقديرها لشهامته وأنفته.
__________________
(١) في بعض المصادر أن اسمه : الميجر جنرال أحمد عبد القادر العيدروس ، القائد العام لقوات ولاية حيدرآباد ، جاء مرافقا للكولونيل دي. جي ـ ايجرتون ، كمستشار عسكري لجميع القوات التي ستقتحم الغرفة. «بحوث المقاومة» (٩١).
(٢) لواذا : عائذا.
(٣) الشيخ محفوظ بن سعيد بن ثابت المصلّي ، وكان قدومه إلى الغرفة بعد سنة (١٩٣٧ م) إثر عزل الأمير علي بن صلاح من ولاية شبام على يد انجرامس ، وتلا ذلك تدخل الحكومة وأصحاب الجاه والنفوذ في شؤون القضاء بالدولة.