يلين له الحديد ـ فيحنّ إلى اللّيالي حنين الصبّ المشتاق إلى حبيبه القادم بعد طول الفراق ؛ لما يجده من لذّة العبادة ، وحلاوة التّلاوة ، وعذوبة المناجاة الّتي أشار إلى مثلها ابن القيّم في (ص ٣٣١) من «إغاثة اللهفان».
ومع ذلك فقد كان يتململ لما يجد من تلك اللّذة خوفا أن ينقطع بها عن المقصود ، أو تكون حظّه من العمل ، وكان يحكي مثل ذلك عن أبيه. وأقول : أمّا خوف الانقطاع بها عن المقصود .. فممكن ، وأمّا أن تكون حظّه من العمل .. فلا ؛ لأنّها بعض ثمرته المعجّلة.
وكان آية في عزّة النّفس والصّدع بالحقّ والشّدّة فيه والغيرة عليه ، إلى بسطة كفّ ، وفرط رحمة ، وسلامة صدر ، وورع حاجز ، واحتياط تامّ ، وقناعة بما يجد من حرثه ، وما يصل من الفتوح إليه من غير طمع ولا إشراف نفس ، فعنده غفّة (١) من العيش ، جمع إليها شعبة وافرة من القناعة ، مغتبط بعيشه ، قانع برزقه ، راض عن ربّه ، ليس له حجاب ، ولا يغلق عليه باب ، وإنّما هو كما قال السّلاميّ [من الطّويل] :
كماء الفرات الجمّ أعرض ورده |
|
لكلّ أناس فهو سهل الشّرائع |
وكان له في الوعظ لسان ، ويأخذه فيه حال عظيم يشغله عن نفسه ، وله قلم سيّال في المكاتبات والرّسائل العلميّة ، جمع من ذلك الفاضل السّيّد سالم بن حفيظ ما دخل في ستّة مجلّدات.
ولكنّ لسانه أقوى بكثير من قلمه.
يقول عارف مقدار الكلام له |
|
سبحان خالقه سبحان باريه (٢) |
وطيلة حياتي لم أسمع منه لغوا قطّ ، وكان أعيان زمانه يعرفون منه ذلك ، فيحاولون أن يتسقّطوه الكلام ويحتالون ليخوض معهم ، فلا يقدرون على شيء ، فلا أجد لهم وإيّاه مثلا إلّا الرّبيع بن خيثم ؛ إذ خفّوا إليه يوم قتل الحسين ليستخرجوا منه
__________________
(١) الغفّة : البلغة من العيش.
(٢) البيت من البسيط.