ولطالما وردت القصيدة بعد القصيدة من أشعاره إلى حضرة سيّدي الوالد في حفلة فلا تسل عمّا يقع من الاستحسان والثّناء من كلّ لسان ، والإجماع على فضل ذلك الإنسان ، غير أنّ والدي كثيرا ما يخشى عليّ الافتتان بتلك الرّوائع فيغيّر مجرى الحديث ، ولكنّه لا يقدر أن ينقذ الموقف متى حضر سيّدي الوالد علويّ بن عبد الرّحمن ، لأنّه من المولعين بابن شهاب وبأدبه ، فلا يزال يكرّر إنشادها ، ويطنب فيمن شادها ، وكلّما أراد أبي أن ينقذ الموقف .. قال له : دعنا يا عبيد الله نتمتّع بهذا الكلام ، لن يفوتك ما أنت فيه.
ونحن نجد من اللّذة بذلك الشّعر العذب ، واللّؤلؤ الرّطب ، ما يكاد ينطبق عليه قول المتنبّي [في «العكبريّ» ٤ / ٨٦ من الطّويل] :
ألذّ من الصّهباء بالماء ذكره |
|
وأحسن من يسر تلقّاه معدم (١) |
وكلّ من القوم ضارب بذقنه ، أو باسط ذراعيه بالوصيد ، ويزيد أهل الشّعر منهم بتمنّي أن لو كان لأحدهم بيت منها بجملة من القصيد.
وكما لقّحت البلاد بفنونه عن حيال .. فلا أكذب الله : كلّ من بعده عليه عيال ، وأنا معترف بأنّ ما يوجد على شعري من مسحة الإجادة .. إنّما هو بفضله ؛ لأنّني أطيل النّظر في شعره ، وأتمنّى أن أصل إلى مثله.
وكأنّنا لمّا انتحينا نهجه |
|
نقفو ضياء الكوكب الوقّاد (٢) |
وكان يحسد حسدا شديدا ، لا من النّاحية العلميّة والأدبيّة اللّتين سقطت دونهما همم العدا ونفاسة الحسّاد ؛ لأنّ الأمر من هذه النّاحية كما قال البحتريّ [في «ديوانه» ١ / ١٤ من الكامل] :
فنيت أحاديث النّفوس بذكرها |
|
وأفاق كلّ منافس وحسود |
__________________
(١) الصّهباء : اسم من أسماء الخمر. المعدم : الفقير.
(٢) البيت من الكامل ، وهو للبحتريّ في «ديوانه» (١ / ١٨٦) بتغيير بسيط.