منار سيرة السّلف بإعزاز الأغنياء وإذلال الفقراء والعلماء ، ولمّا صدقتهم وذكرت لهم من أعمال أولئك ما يخالف هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم .. لم يسعهم إلّا الإذعان ، ووعدوا بالتّوسّط لإصلاح الأمور ، وكأنّهم لم يجدوا قبولا من ذلك الجانب فانثنوا ، والقصيدة بموضعها من «الدّيوان».
وأشهد لقد طلعت عليه فجأة إلى سطح قصره بعد المغرب .. فإذا به يدور على غاية من الاستغراق والحضور ، ويكرّر قول أبي فراس [في «ديوانه» ٤٥ من الطّويل] :
فليتك تحلو والحياة مريرة |
|
وليتك ترضى والأنام غضاب |
وليت الّذي بيني وبينك عامر |
|
وبيني وبين العالمين خراب |
فجمعت يدي منه على دين ثابت ، ويقين فرعه في السّماء وأصله في التّخوم نابت.
ولطالما ترنّحت طربا لهذين البيتين ، واستجهرني جمالهما ، وترنّمت بهما في مناجاة الباري عزّ وجلّ ، لا سيّما وقد تمثّل بهما جلّة العلماء ، ومنهم سلطانهم عزّ الدّين ابن عبد السّلام ، غير أنّي لمّا أنعمت النّظر ، وأفقت من دهشة الإعجاب به .. ألفيته مصادما لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «لا تمنّوا لقاء العدوّ ، واسألوا الله العافية» (١) ؛ إذ لم يترك شيئا من البلاء إلّا تمنّاه.
وربّما يكون ما وقع فيه ابن عبد السّلام من السّجن والامتحان مسبّبا عن ذلك ، وقد ذكرت في «العود» [٢ / ٢٥٩] جماعة ممّن أصيبوا بالعاهات من جهة تمنّيهم ذلك في طريق الوصال ، وقد أخذ الله بصر المؤمّل ابن أميل من صباح اللّيلة الّتي قال فيها [من البسيط] :
شفّ المؤمّل يوم الحيرة النّظر |
|
ليت المؤمّل لم يخلق له بصر |
وبرص المجنون لقوله [في «ديوانه» ٢٢٦ من الطّويل] :
قضاها لغيري وابتلاني بحبّها |
|
فهلّا بشيء غير هذا ابتلانيا |
__________________
(١) أخرجه البخاري (٢٨٠٤) ، ومسلم (١٧٤٢).