العلو ، فنبه بقوله (فَتَدَلَّى) على أن قربه قاب قوسين كان ثمرة التدلي المشعر بالتنزيل ، وأنه تعالى لا يختص قربه بجهة العلو ، بل التدلي إليه بالخضوع أقرب تحقيقا لقوله (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) وفي الصحيح [أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد] وإذا أردت زيادة التبصر بأن الإسراء وعروج الملائكة ورفع عيسى وادريس صلى الله عليهم وسلم إلى السماء لا يدل على أن الله تعالى مخصوص بجهة السماء ، فاعتبر فرض الحج على العباد إلى البيت الحرام ، وأمر الله تعالى الناس بالتوجه إليه من جميع الجهات ، وجعل سكانه جيران الله ، وحجاجه وفده وضيفانه ، والحجر الأسود يمينه ، مع أن نسبة البيت وغيره إلى الله تعالى سبحانه كاعتبار المسافة بسفر أحد ، فعلم أن القصد بالسير إلى البيت لا أن السير يقتضي القرب والوصول إليه بالمكان ، وإنما لله سبحانه تعبدات وأسرار في ضمن مشروعات يقتضيها من عباده بحكم ظاهر وحقيقة ، ألا تراه كيف ناجى موسى صلىاللهعليهوسلم بالواد المقدس وأسمعه كلامه من الشجرة ، ووصفه بالقرب إلى مجلس حضرته ونجواه ، مع الاتفاق على أنه تعالى لا يختص بجهة الواد المقدس ، ولا يحل كلامه ـ وهو صفته ـ بالشجرة ، وأن موسى صلىاللهعليهوسلم قرب إليه مع كونه بالأرض ، وسمع نداء ربه من جانب الطور ، ولم يكن ربه بجانب الطور ، وإنما لتجلياته مظاهر وحجب روحانية وجسمانية ، لا يشهدها إلا من فتق الله رتق قلبه ، وفلق أصباح ليله ، ونوّر مصباح مشكاته بزيت شجرة توحيده (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) واعلم أن الله تعالى نبه بقوله (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) إلى قوله (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما تحقق (سبحان الله) أولا (وبحمد الله) آخرا تجلى له وجه ربه بكماله الجامع للجلال والإكرام ، في شرف لا إله إلا الله الجامع لسبحان الله والحمد لله ، آية ربه الكبرى ، ولهذا قال آخر السورة (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) ـ مشهد روحاني ـ كان الإسراء مقاما خصّ به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو مقام رؤية المعبود جل وعلا ، وهو مقام قاب قوسين أو أدنى ، وذلك أنه لما كان صلىاللهعليهوسلم ثمرة شجرة الكون (١) ، ودرة صدفة الوجود وسره ، ومعنى كلمة كن ، ولم تكن الشجرة مرادة لذاتها ، وإنما كانت مرادة لثمرتها ، فهي محمية محروسة لاجتناء ثمرتها واستجلاء زهرتها ، ولما كان المراد عرض هذه الثمرة بين يدي مثمرها ، وزفها إلى حضرة قربه ، والطواف بها على ندمان حضرته ،
__________________
(١) ثمرة شجرة الكون يعني بالكون كل ما خلق من الكلمة الإلهية وهي (كُنْ).