قليلا وألفت فرسه على أنه يهرب فمشى خطوتين وانقلب عن الفرس إلى الأرض فأقام نحو درجة وخرجت روحه ومات من شدة قهره ، وقيل فقئت مرارته وطلع من حلقه دم أحمر. فلما أشيع موته زحف عسكر ابن عثمان على من كان حول السلطان فقتلوا الأمير بيبرس أحد المقدمين وقتلوا جماعة من الخاصكية وغلمان السلطان ممن كان حوله.
وأما السلطان من حين مات لم يعلم له خبر ولا وقف له على أثر ولا ظهرت جثته بين القتلى فكأن الأرض قد ابتلعته في الحال وفي ذلك عبرة لمن اعتبر ، فداس العثمانية وطاق الغوري بما فيه من الأمتعة والأرزاق التي كانت حوله بأرجل الخيول وفقد المصحف العثماني وداسوا أعلام الفقراء وصناجق الأمراء ووقع النهب في أرزاق عسكر مصر وبرقهم وزال ملك الأشرف الغوري في لمح البصر فكأنه لم يكن فسبحان من لا يزول ملكه ولا يتغير ، فاضمحل أمره وزال ملكه بعد ما تصرف في ملك مصر وأعمالها والبلاد الشامية وأعمالها ، وكانت مدة سلطنته خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرين يوما وكان الناس معه في هذه المدة في غاية الضنك ، وقد قلت في المعنى :
اعجبوا للأشرف الغوري الذي |
|
مذ تناهى ظلمه في القاهره |
زال عنه ملكه في ساعة |
|
خسر الدنيا إذا والآخره |
وقد أقامت هذه الواقعة من طلوع الشمس إلى ما بعد الظهر وانتهى الحال إلى الأمر الذي قدره الله تعالى فقتل في تلك الوقعة من عسكر السلطان ابن عثمان ومن عسكر السلطان الغوري ما لا يحصى عدده ، فقتل من الأمراء المقدمين ثلاثة وهم الأتابكي سودون العجمي وبيبرس قريب السلطان وأقباي الطويل وأسروا قانصوه ابن السلطان جركس وقتل سيباي نائب الشام وتمراز نائب طرابلس وطراباي نائب صفد وأصلان نائب حمص وغير ذلك جماعة كثيرة من أمراء دمشق وأمراء حلب وطرابلس ، وقتل من أمراء مصر جماعة كثيرة من أمراء الطبلخانات والعشروات والخاصكية ، وأكثر من قتل من عسكر مصر المماليك القرانصة ولم يقتل من مماليك الجلبان إلا القليل فإنهم لم يقاتلوا في هذه الواقعة ولا ظهر لهم فروسية ولا جذبوا سيفا ولا هزوا رمحا فكأنهم خشب مسندة ، وقتل من أمراء مصر ودمشق وحلب فوق الأربعين أميرا ، وقتل في ذلك اليوم القاضي ناظر الجيش عبد القادر القصروي وجماعة كثيرة من الجند ، وكانت ساعة يشيب منها الوليد ويذوب لسطوتها الحديد ، فكان مرج دابق فيه جثث مرمية وأبدان بلا رؤوس ووجوه معفرة بالتراب قد تغيرت