وأسلحته ما يذبون به عن أنفسهم وعقدوا عزمهم على السعي في الصلح وبذل مجهودهم في إبرامه ، فراسلوا الوالي في ذلك وذكروا له ما كان الناس فيه من الضيق وما صار إليه الأهلون ولا سيما الفقراء من سوء الحال ، وحذروه غائلة ما يترتب على ذلك من اليأس وإن اليأس كثيرا ما يحدو إلى ارتكاب الجرائم ، وسولوا له أن يعدل عن جلاء الأنكجارية ، فقال لهم في جوابه : إن جلاء هؤلاء لا بد منه إذ كان قد أتاه به أمر مشدد من السلطان ، فلما بلغ ذلك الثائرين تنخوا وأخذتهم الحمية فقالوا : لو رام الأنكجارية أنفسهم أن يجلوا عن المدينة طائعين لم ندعهم ، فإما أن ننجلي عنها معهم ونغادرها خاوية على عروشها أو نهلك معهم.
وإنما كان ذلك منهم ضربا من نزاع المحتضر ، إذ كانت قواهم في الحقيقة قد خارت لتطاول مدة الحصار عليهم وانقطاع الميرة عنهم واستيلاء جند الوالي كل يوم على حي جديد من أحيائهم منذ تم لهم الاستيلاء على الزقاق الطويل ، فنخبت قلوبهم وانكسرت عزائمهم وأخذ مظافروهم ومظاهروهم يتسللون منهم واحدا بعد واحد حتى أصبحوا في الرابع والعشرين من كانون الثاني وهم نفر قليل لا قبل لهم بجند الوالي وأنصاره ، فجنحوا إلى الصلح على شرط الوالي وكتبوا إليه في نزول الأنكجارية على حكمه في الجلاء عن المدينة وأنهم يرغبون إليه أن ينظرهم ثلاثة أيام ، فأجابهم الوالي إلى ذلك.
ولما انقضت هذه العدة وذلك في الثامن والعشرين من كانون الثاني صباحا دخل خورشيد باشا المدينة صلحا ومعه المتسلم ونحو أربعمائة من الجند ونزل في دار بني الجابري في نفر من الجند وتفرق باقوهم في أحياء المدينة ، ثم أمر بإصعاد الميرة إلى القلعة سدا لرمق حرسها والجنود الذين كانوا فيها وعاد في مساء ذلك اليوم إلى قصره.
إلا أن أهل المحلة المعروفة بالقصيلة لما رأوا غرارات الميرة يصعد بها إلى القلعة ساءهم ذلك فاستأنفوا الفتنة وتحصنوا بالجوامع وطفقوا يرمون الجند بالرصاص من مآذنها حتى اضطروهم إلى الهرب ، فلما بلغ ذلك الوالي كاد يتميز من الغيظ وأمر أصحاب مدافعه أن يرموا المدينة بالقنابر ، وأوعز إلى قواده أن يهجموها برجالهم في ليلتهم تلك ويأخذوها بالسيف إذ كان أهلها قد غدروا وصالحوه على دخل ، فهجموها وأخذوها بالسيف وعاملوها معاملة مدينة قد أخذت عنوة واستباحوها إلى الصباح (١).
__________________
(١) وكان عدد ما نهبوه من الدور سبعمائة دار اه منه.