وهو في الربض الشرقي الشمالي من أرباض المدينة إزاء القصر ، وكان الثائرون كثيرا ما يتحصنون فيه ويتسطون منه على القصر ، فلذا كان جند الوالي قد صرفوا جل همتهم بادىء بدء إلى الاستيلاء عليه.
وهاجموه مرارا يحاولون أخذه ولم يستطيعوا ، فلما أتى مدد السلطان وتكاثر الجند تأتى لهم بعد العناء الشديد والجهد الجاهد أن يأخذوه ، وكان ذلك في الثالث من كانون الثاني سنة عشرين وثمانمائة وألف (أوائل سنة ١٢٣٥ ه). فلما تم لهم الاستيلاء عليه لم يلبثوا أن استولوا على المدينة بأسرها في بضعة أيام كما سترى ، وكان حرس القلعة وسكانها والأرناؤوط اللاجئون إليها قد حصرهم فيها الثائرون وقطعوا عنهم الميرة والمدد ، وكان إذا حاول أحد منهم أن يخرج منها فإن كان من سكانها ردوه إليها وإن كان من الجند أو من الأرناؤوط قتلوه صبرا ، إذ كان هؤلاء كالشوكة في جوانبهم وكالشجى في حلوقهم شديدي النكاية في الثائرين يرمونهم بالرصاص والقنابر من أمد بعيد ويثبطونهم عن الجولان في المدينة والتنقل فيها إلى حيث كانت تدعوهم ضرورة القتال ، فلذا شددوا عليهم الحصار رجاء أن يكرهوهم على التسليم ويضطروهم إلى النزول على حكمهم ، وراسلوا في ذلك مقدمهم مرارا فكان يأباه ويقول إنه خادم الوالي فلن يبرح مكانه أو يأذن له سيده ، واستمروا محصورين إلى أن انقضت الثورة واستولى خورشيد باشا على المدينة ففرج عنهم.
وقد تقدم ذكر أهمية التجارة في حلب ، على أن جل تجارها كانوا يومئذ من الإفرنج ، فلما طالت مدة الحصار وتفاقم الخطب انقطعت قوافلهم وتعطلت متاجرهم فاجتمعوا وضربوا أخماسا بأسداس ، وكان أيضا قد بلغهم عن رجل من زعماء الثائرين يقال له ابن عرب ناصر أنه لما رأى اشتداد الأزمة على حزبه قال في إحدى حانات القهوة : إن الثائرين قد بلغ منهم السكين العظم وإنه قد آن للإفرنج وقناصلهم أن يسعوا في حمل الدولة على عزل هذا الوالي وكشف بلائه عن المدينة ، فقد أضر الجوع بفقرائها من جري الحصار وإنه إن لم يحاول الإفرنج إزالة بعض الشدة عن المدينة بمقدار وسعهم وهم يأكلون خيراتها بمتاجرهم اتخذ الناس من ذلك دليلا على أنهم لا هم لهم سوى مصلحة أنفسهم. وتهددهم أيضا بطريقة منحرفة فقال إنه لا يأمن إذا اشتد اليأس بالفقراء الجائعين أن يثوروا على الإفرنج وينزلوا بهم ما يكرهون ، فأوجس الإفرنج خيفة على أنفسهم وخشوا غائلة هذا الوعيد وأجمعوا على إغلاق أبواب الخانات التي كانوا يقيمون بها ، وأعدوا من البارود