إبعاد الثائرين عن المتارس ، فانخدع الثائرون وبارحوا متارسهم واتبعوا الجند وابتعدوا نحو ميلين عن المدينة ، ثم كر الجند عليهم كرة منكرة وأثخنوا فيهم فانكسروا وانقلبوا راجعين إلى المدينة وتحصنوا فيها ثانية وصدوا الجند عن دخولها عنوة.
ولما صح عند الوالي بعد هذه المواقع أنه عاجز عن قمع الثورة لقلة من عنده من الرجال استنجد السلطان فأوعز السلطان إلى ثلاثة من ولاة المدن القريبة أن يسيروا إلى حلب بمن معهم من الجند ، ويقال إنه أمرهم سرا أن يسعوا في إصلاح ذات البين بالتي هي أحسن حقنا للدماء ، فإن لم يتسن لهم ذلك على وجه لا يكون فيه إفراط في الحكم ولا تفريط في العنف حتى لا ييأس الثائرون لشدة العنف ولا يتجرؤوا لفرط التساهل فيحسبوا الحلم عجزا وضعفا ويتمادوا في غيهم ويتجرأ غيرهم على اقتفاء أثرهم فلينصروا خورشيد باشا بجنودهم.
فكان أول هؤلاء الثلاثة قدوما إلى حلب لطف الله باشا والي سيواس ، وصل إلى المدينة في السادس عشر من كانون الأول ومعه ألف رجل وبعض مدافع وحل بهم في البستان المعروف ببستان الشيخ طه إلى الشمال من المدينة ، ولما أبصر به الجند المحصورون في القلعة أطلقوا المدافع إحدى وعشرين طلقة للتسليم عليه فرد عليهم بتسع طلقات على ما تقتضيه قوانين النظام الجديد ، ووصل بعده بثلاثة أيام باكر باشا والي قيسارية ومعه أيضا جند ومدافع ، ثم نزلت الطامة الكبرى بقدوم جلال الدين محمد بن جوبان في أربعة آلاف من الجند وذلك بعد أسبوع من وصول باكر باشا.
وكان الثائرون قبل وصول هذه النجدة أضعاف جند الوالي عددا ، غير أنهم كانت تعوزهم العدد ، ولو كان لهم مدافع كما كان لجند الوالي وكان فيهم من يحسن ممارستها فما كان يبعد أن يستولوا على قصر الوالي من أول وهلة ، وقد حاولوا أن يستعينوا غير مرة على ذلك بالمدافع فلم يفوزوا منها بطائل وذلك لأنه لم يكن فيهم من يعرف من أمرها شيئا ، ولذا لم يغن عنهم عددهم حين كان الوالي في قل من الرجال ، فلما أتاه مدد السلطان وقدم ابن جوبان بنجدة بأربعة آلاف رجل كما أسلفنا تشدد عزمه ووثق بالنصر ورأى أن وضع الحلم موضع السيف مضر بالسياسة فأبى إلا نزول الثائرين على حكمه.
وكان المتبحرون في فن الحرب وأبوابها وحيلها من قواده وقواد أنصاره قد علموا أن الاستيلاء على المدينة لا يسهل عليهم بالسرعة المقصودة ما لم يستولوا أولا على الزقاق الطويل