وقد اتضح مما كان يدور بين رسل الوالي وأهل المدينة أن خورشيد باشا كان عاقدا عزمه على إنفاذ أمر السلطان في جلاء الأنكجارية عن حلب والقبض على زعمائهم الذين تسببوا في الثورة ، فصمم على ذلك وأبى إلا بلوغ هذه الغاية ، وكان رسله في كل محاوراتهم مع الثائرين يقترحون هذا الشرط ويقولون إنه لا يتم بدونه وفاق ، وكان الثائرون يأبونه ويقولون إن الأنكجارية إخوتهم وأولادهم وقد بذلوا أنفسهم دونهم فلن يخذلوهم أبدا وإنه ليس ثم زعماء يصح أن يقال عنهم إنهم تسببوا في الثورة وإنما ثار الناس عامة من فورهم ، فإما العفو عن الجميع أو معاقبة الجميع. ولما شعروا بأن محمد بن قجة وكان مقدمهم كما أسلفنا قد بدا منه فتور وجنح إلى الصلح على شرط الوالي قرفوه بأنه كان يحاول أن يستأمن لنفسه بالغدر بأصحابه ، فعزلوه عن الرياسة وقدموا على أنفسهم رجلا آخر.
ومما زاد في إلقاء التنافر وتعذر الصلح أن فئة الأنكجارية كانوا قد أشربوا في قلوبهم بغض الوالي والمتسلم متوهمين أنهما كانا يعملان على جلائهم عداوة ومن تلقاء أنفسهما ، فلذا كانوا إذا اجتمعوا وتشاوروا في أمر من أمورهم أصروا على اقتراح عزلهما ، ولما قدم ابن جوبان إلى حلب كما سنذكره لك بعيد هذا طمعوا في أن يحملوا السلطان على عقد الولاية له مكان خورشيد وعزب عنهم أن السلطان كان قد قضى بقطع شأفتهم وعقد على ذلك عزمه منذ أفضت إليه الخلافة وأن خورشيد باشا والمتسلم ما كانا سوى آلة في يده ينفذ بهما مآربه ، فلذا تعذر الوفاق وأبطأ إبرام الصلح وطالت مدة الحصار حتى أنافت على شهرين لم ينقطع القتال فيهما يوما واحدا.
وقد هلك في بعض هذه الوقائع خلق كثر من الفئتين المتحاربتين ، قيل إنه قتل نحو من مائة وخمسين رجلا في وقعة قاضي عسكر الأولى التي جرت في الثامن عشر من تشرين الثاني ، ونحو من مائتين وخمسين رجلا في وقعة قاضي عسكر الثانية وهي التي جرت في الحادي والعشرين منه. وكان في هذا الوقعة نحو ألف وخمسمائة فارس من جند الوالي يصحبهم سبعة مدافع ومن الثائرين نحو خمسة آلاف رجل سوى النساء. ومن خبر هذه الوقعة أن جند الوالي حاولوا اقتحام المحلة المعروفة بقاضي عسكر على حين غفلة من الثائرين إذ كان أكثرهم قد تركوا متارسهم وذهبوا يقيمون صلاة الجمعة في مساجدهم ، فكاد الجند يستولون على المحلة ، ونمي الخبر إلى الثائرين فتركوا الصلاة وطاروا إلى المحلة زرافات ووحدانا وانبروا للجند فأظهر هؤلاء الهزيمة إلى ما وراء الكروم ، وكان ذلك خدعة راموا بها