وكان الثائرون قد رأوا أن أمورهم لا تصلح ما لم يكن لهم رؤساء يدبرونهم ويجمعون كلمتهم لا في أمر القتال فقط بل في سياسة المدينة أيضا ، إذ كان لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم ، فاجتمعوا وقدموا على أنفسهم رجالا يركنون إليهم ويثقون بهم وجعلوا ناظورتهم واحدا منهم ذا رأي وحزم يقال له محمد قجة ، فاجتمع هؤلاء المقدمون بعلماء المدينة ومشايخها للمشاورة في الأمر ، وكانوا قد أوجسوا أنه إذا طالت مدة الحصار وما يلزم عنه من انقطاع الميرة عنهم وأصر الوالي على حبس ماء القناة عن المدينة وكان قد أمر بحبسه اضطربت أحوالهم ، فرأوا من الحزم أن يتلافوا الأمر واجتمعوا عند نائب القاضي في منزله الذي بالمحكمة وذلك يوم الأربعاء الثالث من تشرين الثاني ، وقر رأيهم على شراء ما كان عند الأعيان من القمح وتوزيعه في الناس ، فأخذوه وأدوا ثمنه إلى وكلاء أربابه إذ كان أربابه أنفسهم غائبين عن المدينة ملتجئين بقصر الوالي. ثم رفع العلماء قصة إلى الوالي كتبوها عن لسان الأهلين وقالوا فيها إنهم لم يحملوا السلاح عصيانا وإنما ثاروا لشدة ما كانوا يلقونه من العنف وما كان يبهظهم من الضريبة الجديدة أي خراج الدور ، سيما وأنها ضربت عليهم في سنة قحط وغلاء سعر ، وذكروا أن أكثر ما يتظلمون منه إنما هو ناشىء عن متسلمه ، وكرروا الرغبة إليه في أن يعفيهم من هذا الخراج وأن يعزل هذا المتسلم وينزل هو إلى دار الولاية فيلي سياسة المدينة بنفسه كما جرت به العادة في سائر المدن وأن يجمع جنده في موضع واحد من البلد إذ كان يسوءهم أن يكون العسكر بين ظهرانيهم متفرقا في منازل شتى متأشبا بهم مساكنا لهم وهو مؤلف في غالب أمره من رعاع الترك وسفلة الأرناؤوط ، ولوحوا له بأن يبني ما كان قد احترق من الأسواق والأزقة ، وأرسلوا إليه نائب القاضي بهذه القصة ، فلما أتاه بها لم يصخ إليها صغيا من يومه ورأى من الحزم أن يؤخر الجواب إلى الغد. فلما كان الغد أجابهم عليها فقال إنه يجدد بناء ما احترق لكنه لا يعفيهم من الخراج ولا ينزل إلى دار الولاية ، وقصارى ما يفعله أنه يعزل المتسلم القديم وينصب آخر مكانه ، ولمح إلى متسلم عينتاب ، وقيل إنه وعدهم بالتلميح لا بالتصريح أن يجعل رياسة الشرطة لزعيمهم محمد قجة المتقدم ذكره فلم يروا في ذلك مقنعا.
ودامت الحال على ذلك أياما الرسل بين الوالي والأهلين تتردد ، والمواقع بين الجند والثائرين تتعاقب كل يوم وتتجدد ، والحرب بين الفئتين سجال إذ لم يكن يتأتى للثائرين أن يستولوا على قصر الوالي ولا للجند أن يقتحموا المدينة ويأخذوها عنوة وذلك لقلة عددهم.