فنبذوها ظهريا واحتقروها وجعلوا جل اعتمادهم على فروسيتهم وشجاعتهم الشخصية في معمعان الحرب ، وأنت خبير أن الشجاعة أو البسالة إذا لم يكن العقل لها مدبرا عدت تهورا وأن الجرأة الشخصية لم يبق لها معنى بعد اختراع البارود وأسلحته وما حدث عنه من تغير طرق القتال فلذا لم تغن عنهم شجاعتهم شيئا.
فلما أفضى إليهم الأمر بعد الأيوبيين أخذوا يتداولونه بينهم على غير نظام ولا قانون بل افتياتا ، فكان الأمراء منهم يجتمعون ويبايعون بالسلطنة لمن يقع عليه اختيارهم منهم ثم يبدوا لهم بعد قليل فيخلعونه أو يقتلونه ويولون غيره ، فانفتح بذلك باب للمكايد والتوالس (١) والأثرة حتى أصبح الملك مما يزهد فيه ويرغب عنه وحتى صار العرش رمزا عن النعش ، واستمرت الحال على ذلك دهرا. فلما كانت سنة ست وتسعمائة للهجرة قتلوا سلطانهم سيف الدين واجتمعوا لتولية آخر مكانه فأجمع رأيهم على تولية قانصوه الغوري وهو واحد منهم فلم يقبل أن يلي السلطان حتى أخذ عليهم عهدا أن لا يقتلوه بل متى عنّ لهم أن يولوا غيره خلع نفسه طائعا (٢) فبايعوه على ما اشترط لأنهم توهموه لين العريكة يستطاع لهم خلعه بأيسر مرام وكانت البيعة بقلعة الجبل بحضرة الخليفة العباسي المستنصر بالله والقضاة الأربعة وأصحاب الحل والعقد وذلك في مستهل شوال من هذه السنة.
إلا أن الغوري لم يكن من لين العريكة بحيث يوهموا بل كان بالإضافة إلى غيره من أمراء الجراكسة ذا رأي وفطنة وبصيرة ، فلما ولي السلطان رأى بعين بصيرته ما كان يراه كل ذي لب وهو أن تلك الحال لا يمكن دوامها لأنها داعية إلى الاختلال فنوى أن يرتق هذا الفتق ما استطاع وأضمر أن يقمع الأمراء ويكسر شوكتهم متى أمكنه ذلك.
وإنما كانت قوتهم بالقرانصة وهم المماليك البحرية (٣) الذين كان معظم جند مصر منهم وكانوا في ذلك بمنزلة الأنكجارية من الترك في الأعصر التالية وأمراؤهم بمنزلة الأغاوات
__________________
(١) الوالس الخيانة والخديعة وتوالسوا : تناصروا في خب وخديعة ا ه قاموس.
(٢) كما جاء في نزهة الناظرين فيمن ولي مصر من الخلفاء والسلاطين للشيخ مرعي الحنبلي المقدسي.
(٣) نسبة إلى البحيرة من أرض مصر.