الإيلاء والعزم قد اجتمعا ، وأما الطّلاق فهو متعلّق العزم ، ومتعلّق العزم متأخر عن العزم ؛ فإذن الطّلاق متأخّر عن العزم لا محالة ، والإيلاء إمّا أن يكون مقارنا للعزم أو متقدّما عليه ، وهذا يفيد أن الطّلاق مغاير لذلك الإيلاء.
الحجة الثّالثة : قوله تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يقتضي أن يصدر من الزّوج شيء يكون مسموعا وما ذاك إلّا أن نقول تقديره : «وإن عزموا الطّلاق وطلّقوا فالله سميع لكلامهم ، عليم بما في قلوبهم».
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد إن الله سميع لذلك الإيلاء.
فالجواب : أنّ هذا التهديد لم يحصل على نفس الإيلاء ، بل إنّما حصل عن شيء حصل بعد الإيلاء ، فلا بدّ وأن يصدر عن الزّوج بعد ذلك الإيلاء ، وهو كلام غيره ؛ حتى يكون قوله : (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تهديدا عليه.
الحجة الرّابعة : قوله : (فَإِنْ فاؤُ) ، (وَإِنْ عَزَمُوا) ظاهره التّخيير بين الأمرين ؛ وذلك يقتضي أن يكون ثبوتهما واحدا ، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك.
الحجة الخامسة : أنّ الإيلاء في نفسه ليس بطلاق ، بل هو حلف على الامتناع عن الجماع مدّة مخصوصة ، إلّا أنّ الشّرع ضرب لذلك مقدارا معلوما من الزّمان ؛ وذلك لأنّ الرّجل قد يترك جماع المرأة مدّة من الزّمان لا بسبب المضارّة ، وهذا إنّما يكون إذا كان الزّمان قصيرا ، فأمّا ترك الجماع زمانا طويلا ، فلا يكون إلّا عند قصد المضارّة ، ولما كان الطّول والقصر في هذا الباب أمرا غير مضبوط ، قدّر له الشّارع حدّا فاصلا بين القصير والطّويل ، وذلك لا يوجب وقوع الطّلاق ، بل اللائق بحكم الشّرع عند ظهور قصد المضارّة ، أن يأمر بترك المضارّة ، أو بتخليصها من قيد الإيلاء ، وهذا المعنى معتبر في الشّرع ؛ كضرب الأجل في مدّة العنين (١) وغيره.
حجة أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ : قراءة عبد الله بن مسعود : «فإن فاءوا فيهنّ».
والجواب : أنّ القراءة الشّاذّة مردودة ؛ لأن القرآن لا يثبت كونه قرآنا إلّا بالتّواتر ؛
__________________
(١) (العنّين) بكسر العين والنون المشدّدة ، وهو العاجز عن الوطء. وربّما اشتهاه ، ولا يمكنه. مشتقّ من عنّ الشّيء إذا اعترض لأنّ ذكره يعنّ أي يعترض عن يمين الفرج وشماله.
وقيل من عنان الدّابّة للينه. قالوا : يقال : عنّ يعنّ ويعنّ عنّا وعنونا.
واعتنّ اعترض ، قال ابن الأعرابي : جمع العنّين والمعنون عنن. قال : يقال : عنّ الرّجل ، وعنّن ، وعنن ، واعتنّ ، فهو عنّين ، معنون ، معنّ معنّن.
قال صاحب المحكم : هو عنّين بين العنانة والعنّينة ، والعنّينيّة.
قال أبو عبيد : امرأة عنينة وهي التي لا تريد الرجال ، وأما ما يقع في كتب أصحابنا من قولهم : العنّة يريدون التعنين فليس بمعروف في اللغة ، وإنما العنّة الحظيرة من الخشب تجعل للإبل والغنم تحبس فيها.
ينظر تحرير التنبيه ص ٢٨٣ ، ٢٨٤ ، المحكم ١ / ٤٨.