قال القرطبي (١) رحمة الله عليه : فإن قيل : قد روى الثّقات أنّ النّبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تخيّروا بين الأنبياء ولا تفضّلوا بين أنبياء الله» ، فأجاب بعض العلماء عن ذلك ، فقال : كان هذا قبل أن يوحى إليه بالتفضيل ، وقبل أن يعلم أنه سيّد ولد آدم ، وأن القرآن ناسخ للمنع من التّفضيل.
وقال قوم : إنّ المنع من التّفضيل إنما هو من جهة النّبوة ، التي هي خصلة واحدة ، لا تفاضل فيها ، وإنّما التّفاضل في زيادة الأحوال ، والكرامات ، والألطاف ، والمعجزات المتباينة.
وأما النّبوّة في نفسها ، فلا تفاضل فيها ، وإنما التّفاضل في أمور أخر زائدة عليها ؛ ولذلك منهم «أولو العزم» ، ومنهم من اتّخذ خليلا ، ومنهم من كلّم الله ، ورفع بعضهم درجات.
قال القرطبي (٢) : وهذا أحسن الأقوال ، فإنّه جمع بين الآي ، والأحاديث من غير نسخ ، وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى اشتركوا في الصّحبة ، ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب ، والوسائل ، مع أنّ الكلّ شملتهم الصّحبة والعدالة.
قال ابن الخطيب (٣) : فإن قيل إنّ معجزات سائر الأنبياء ، كانت أعظم من معجزاته ، فإن آدم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ جعل مسجود الملائكة ، وإبراهيم ألقي في النّار العظيمة ؛ فانقلبت بردا وسلاما عليه ، وموسى أوتي تلك المعجزات العظيمة من قلب العصا حية تسعى ، وتلقفها ما صنعوا ، وإخراج اليد البيضاء من غير سوء ، وفلق البحر ، وفلق الحجر ، ومكالمة ربه ، وداود ألان له الحديد ، وسخّر الجبال يسبحن معه والطّير ، وسخر لسليمان الجن ، والإنس ، والطير والوحوش والرّياح ، وعيسى أنطقه في المهد ، وأقدره على إحياء الموتى ، ونفخ فيه من روحه ، وجعله يبرئ الأكمه ، والأبرص ، ولم يكن ذلك حاصلا لمحمد صلىاللهعليهوسلم وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «لا تفضّلوني على يونس بن متّى» (٤) وقال : «لا ينبغي لأحد أن يكون خيرا من يحيى بين زكريّا» (٥) ، وذكر أنه لم يعمل سيئة قط.
__________________
(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٧٠ ـ ١٧١.
(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٧١.
(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٦٨.
(٤) أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الفضائل : باب في ذكر يونس عليهالسلام حديث (١٦٦ ـ ١٦٧) من حديث أبي هريرة.
(٥) ذكره بهذا اللفظ المتقي الهندي في «كنز العمال» (١١ / ٥٢١) رقم (٣٢٤٣٥) عن يحيى بن جعفر مرسلا وعزاه إلى ابن عساكر.