فإن قيل : ما الفائدة في أمره بضمّها إلى نفسه بعد أخذها؟
فالجواب (١) : فائدته أن يتأمل فيها ، ويعرف أشكالها ، وهيئاتها ؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ، ولا يتوهّم أنّها غير تلك ، وأجمع المفسّرون على أن المراد من الآية الكريمة قطعهن ، وأنّ إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ قطع أعضاءها ، ولحومها ، وريشها ، ودماءها ، وخلط بعضها ببعض ؛ غير أبي مسلم ؛ فإنه أنكر ذلك ، وقال : إنّ إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لما طلب إحياء الميت من الله تعالى ، أراه مثالا قرب به الأمر عليه.
والمراد ب «صرهنّ إليك» الإمالة والتمرين على الإجابة ، وتعلمها ، أي : فعوّد الطير الأربعة ، بحيث تصير إذا دعوتها ، أجابتك. والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر القول بأن المراد منه : فقطعهن.
واحتجّ على ذلك بوجوه :
أحدها : أنّ المشهور في قوله : «فصرهنّ» أي : أملهنّ ، وأمّا التقطيع والذبح ، فليس في الآية ما يدل عليه ، فكان إدراجه في الآية الكريمة زيادة بغير دليل ، وهو لا يجوز.
وثانيها : لو كان المراد قطّعهنّ ، لم يقل إليك ؛ فإنّ ذلك لا يتعدى بإلى.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديم ، وتأخير ، تقديره : فخذ إليك أربعة من الطير ، فصرهن؟
قلنا : التزام التقديم والتّأخير من غير ضرورة خلاف الظاهر.
وثالثها : أن الضمير في قوله : «ثمّ ادعهنّ» عائد إليها لا إلى أجزائها ، وإذا كانت الأجزاء متفرقة ، وكان الموضوع على كلّ جبل بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائدا إلى تلك الأجزاء لا إليها ، وهو خلاف الظاهر ، وأيضا في قوله : «يأتينك سعيا» عائد إليها ، لا إلى أجزائها ، وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض ، كان الضمير في «يأتينك» عائدا إلى أجزائها لا إليها.
__________________
أخضر بتلك البلاد ، فإذا يبس كان قوتا لهم ولم يضرّهم ، فإذا بعد عن الصين ولو مائة ذراع وأكله آكل ـ مات من ساعته ، ومن عجيب أمر السمندل استلذاذه بالنار ، ومكثه فيها وإذا اتسخ جلده ، لا يغسل إلا بالنار ، وكثيرا ما يوجد بالهند ، وهي دابة دون الثعلب ، خلنجية اللون ، حمراء العين ، ذات ذنب طويل ، ينسج من وبرها مناديل ، إذا اتسخت ، ألقيت في النار ، فتنصلح ، ولا تحترق ، وزعم آخرون أنّ السمندل طائر ببلاد الهند يبيض ويفرخ في النار ، وهو بالخاصية لا تؤثر فيه النار ، ويعمل من ريشه مناديل تحمل إلى بلاد الشام ، فإذا اتسخ بعضها طرح في النار ، فتأكل النار وسخه الذي عليه ولا يحترق المنديل. قال ابن خلكان : ولقد رأيت منه قطعة ثخينة منسوجة على هيئة حزام الدابة في طوله وعرضه ، فجعلوها في النار فما عملت فيه شيئا ، فغمسوا أحد جوانبها في الزيت ثم تركوه على فتيلة السراج ، فأشعل وبقي زمانا طويلا مشتعلا ، ثم أطفؤوه ؛ فإذا هو على حاله ما تغير منه شيء.
ينظر : حياة الحيوان ٢ / ٤٠.
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٣٧.