ثامنها : أنّ الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المتقدّم ، فهذا الطّارئ إمّا أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق ، أو لا يكون. والأوّل محال ؛ لأنّ ذلك العل إنّما يكون موجودا في الزّمان الماضي ، فلو كان لهذا الطّارئ أثر في ذلك الفعل لكان هذا إيقاعا للتّأثير في الزّمان الماضي ، وهو محال ، وإن لم يكن لهذا الطّارئ [أثر] في اقتضاء ذلك الفعل السّابق لذلك الاستحقاق ، وجب أن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وألّا يزول.
وتاسعها : أنّ المعتزلة يقولون : إنّ شرب جرعة من الخمر ، يحبط ثواب الإيمان وطاعة سبعين سنة على سبيل الإخلاص ، وذلك محال ؛ لأنّا نعلم بالضّرورة أنّ ثواب هذه الطّاعات أكثر من عقاب هذه المعصية الواحدة ، والأعظم لا يحيط بالأقلّ.
قال الجبّائي (١) : لا يمتنع أن تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كلّ طاعة ، لأن معصية الله تعالى تعظم على قدر كثرة نعمه ، وإحسانه ، كما أنّ استحقاق قيام الرّبّانيّة ، وقد ربّاه وملكه ، وبلغه إلى النّهاية [العظيمة أعظم](٢) من قيامه بحقّه لكثرة نعمه ، فإذا كانت نعم الله على عباده ، بحيث لا تضبط عظما ، وكثرة لم يمتنع أن يستحقّ على المعصية الواحدة العقاب العظيم الّذي يعلو على ثواب جملة الطّاعات.
قال ابن الخطيب (٣) : وهذا العذر ضعيف ؛ لأنّ الملك الّذي عظمت نعمه على عبده ، ثمّ إنّ ذلك العبد قام بحقّ عبوديّته خمسين سنة ، ثم إنّه كسر رأس قلم ذلك الملك قصدا ، فلو أحبط الملك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكلّ أحد يذمّه ، وينسبه إلى ترك الإنصاف والقسوة ، ومعلوم أنّ جميع المعاصي بالنّسبة إلى جلال الله تعالى أقلّ من كسر رأس القلم ، فظهر أنّ قولهم على [خلاف] قياس العقول.
عاشرها : أنّ إيمان ساعة يهدم كفر سبعين سنة فالإيمان سبعين سنة كيف يهدم بفسق ساعة ، وهذا ممّا لا يقبله العقل ، والله أعلم.
قوله (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) يحتمل أمرين :
أحدهما : لا تأتوا به باطلا ، وذلك أن ينوي بالصّدقة الرّياء والسّمعة.
[قال القرطبيّ (٤) : إنّ الله تعالى عبّر عن عدم القبول ، وحرمان الثوب] بالإبطال ، والمراد الصّدقة الّتي يمنّ بها ، ويؤذي لا غيرها ، فالمنّ والأذى في صدقة ؛ لا يبطل صدقة غيرها.
قال جمهور العلماء في هذه الآية : إنّ الصّدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ ، أو يؤذي بها ، فإنّها لا تقبل.
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ٧ / ٤٦.
(٢) في ب : العظمى أبلغ.
(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٤٦.
(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٠٢.