الصفة الثالثة : قوله : «يحسبهم» يجوز في هذه الجملة ما جاز فيما قبلها من الحالية والاستئناف ، وكذلك ما بعدها.
«يحسبهم» هو الظّنّ ، أي : إنّهم من الانقباض ، وترك المسألة ، والتوكل على الله ، بحيث يظنهم الجاهل أغنياء.
وقرأ ابن عامر (١) ، وعاصم ، وحمزة : «يحسب» ـ حيث ورد ـ بفتح السين ، والباقون : بكسرها. فأمّا القراءة الأولى ؛ فجاءت على القياس ؛ لأنّ قياس فعل ـ بكسر العين ـ يفعل بفتحها لتتخالف الحركتان فيخفّ اللفظ ، وهي لغة تميم ، والكسر لغة الحجاز ، وبها قرأ رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ، وقد شذّت ألفاظ أخر ؛ جاءت في الماضي ، والمضارع بكسر العين منها : نعم ينعم ، وبئس يبئس ، ويئس ييئس ، ويبس ييبس من اليبوسة ، وعمد يعمد ، وقياسها كلّها الفتح ، واللغتان فصيحتان في الاستعمال ، والقارئ بلغة الكسر اثنان من كبار النحاة : أبو عمرو ـ وكفى به ـ ، والكسائي ، وقارئا الحرمين : نافع ، وابن كثير.
والجاهل هنا : اسم جنس لا يراد به واحد بعينه.
ولم يرد ـ هنا ـ به الجهل الذي هو ضدّ العلم ، وإنما أراد الجهل الذي هو ضدّ الاختبار ، يقول : يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء ، و «أغنياء» هو المفعول الثاني.
قوله : (مِنَ التَّعَفُّفِ) في «من» هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها سببية ، أي : سبب حسبانهم أغنياء تعفّفهم ، فهو مفعول من أجله ، وجرّه بحرف السبب هنا واجب ، لفقد شرط من شروط النصب ، وهو اتحاد الفاعل ، وذلك أنّ فاعل الحسبان الجاهل ، وفاعل التعفّف هم الفقراء ، ولو كان هذا المفعول له مستكملا لشروط النصب ، لكان الأحسن جرّه بالحرف ؛ لأنه معرّف بأل ، وقد تقدّم أنّ جرّ هذا النوع أحسن من نصبه ؛ نحو : جئت للإكرام ، وقد جاء نصبه ؛ قال القائل : [الرجز]
١٢٤٠ ـ لا أقعد الجبن عن الهيجاء |
|
ولو توالت زمر الأعداء (٢) |
والثاني : أنها لابتداء الغاية ، والمعنى أنّ محسبة الجاهل غناهم ، نشأت من تعفّفهم ؛ لأنه لا يحسب غناهم غنى تعفف ، إنما يحسبه غنى مال ، فقد نشأت محسبته من تعفّفهم ، وهذا على أنّ تعفّفهم تعفف تام.
والثالث : أنها لبيان الجنس ، وإليه نحا ابن عطية ، قال : يكون التعفف داخلا في
__________________
(١) انظر : السبعة ١٩١ ، والكشف ١ / ٣١ ، وحجة القراءات ١٤٨ ، والحجة ٢ / ٤٠٢ ، والعنوان ٧٦ ، وإعراب القراءات ١ / ١٠٣ ، وشرح شعلة ٣٠٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٣١ ـ ١٣٣ ، وإتحاف ١ / ٤٥٧.
(٢) تقدم برقم (٢٥٢).