أي : لا يسألون الناس ، وإنّما أمكنهم ترك السؤال عندما ألحّوا على النفس ، ومنعوها بالتكليف الشّديد عن ذلك السؤال ، ومنه قول عمر بن الخطّاب : [الوافر]
١٢٤٩ ـ ولي نفس أقول لها إذا ما |
|
تنازعني : لعلّي أو عساني (١) |
وثالثها : أنّ من أظهر من نفسه آثار الفقر ، والمذلّة ، والمسكنة ؛ ثم سكت عن السؤال ، فكأنّه أتى بالسؤال الملحّ الملحف ؛ لأن ظهور أمارات الحاجة ، تدلّ على الحاجة ، وسكوته يدل على أنه ليس عنده ما يدفع تلك الحاجة ، ومتى تصوّر الإنسان من غيره ذلك ، رقّ له قلبه جدّا ، وصار حاملا له على أن يدفع إليه شيئا ، فكان إظهار هذه الحالة هو السؤال على سبيل الإلحاف ، فقوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) معناه : أنهم سكتوا عن السؤال ، لكنّهم لا يضمّون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال ، وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف ، بل يزيّنون أنفسهم عند الناس ، ويتجملون عند الخلق ، ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليها إلّا الخالق.
فصل
قال ابن عبد البرّ (٢) : من أحسن ما روي من أجوبة الفقهاء في معاني السّؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه. ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل ، وقد سئل عن المسألة ، متى تحل؟ قال : إذا لم يكن عنده ما يغدّيه ويعشيه ، قيل لأبي عبد الله : فإن اضطرّ إلى المسألة؟ قال : هي مباحة إذا اضطر.
قيل له : فإن تعفّف؟ قال : ذلك خير له ، وقال : ما أظن أنّ أحدا يموت من الجوع ؛ الله يأتيه برزقه ، ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدريّ : «من استعفف أعفّه الله».
قال أبو بكر : وسمعته يسأل عن الرجل الذي لا يجد شيئا ؛ أيسأل الناس ، أم يأكل الميتة؟ فقال : أيأكل الميتة ، وهو يجد من يسأله؟ هذا شنيع.
قال القرطبيّ (٣) : فإن جاءه شيء من غير سؤال ، فله أن يقبله ولا يرده ؛ إذ هو رزق رزقه الله ، لما روي أنّ رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أرسل إلى عمر بن الخطّاب بعطاء ، فردّه ؛ فقال له رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «لم رددته؟» فقال : يا رسول الله ، أليس أخبرتنا أنّ خيرا لأحدنا ألّا يأخذ شيئا؟ فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «إنّما ذاك عن المسألة ، فأمّا ما كان من غير مسألة ،
__________________
(١) ينظر تذكرة النحاة ص ٤٤٠ ، خزانة الأدب ٥ / ٣٣٧ ، ٣٤٩ ، شرح أبيات سيبويه ١ / ٥٢٤ ، شرح التصريح ١ / ٢١٣ ، شرح المفصل ٢ / ١٢٠ ، ٧ / ١٢٣ ، الكتاب ٢ / ٣٧٥ ، المقاصد النحوية ٢ / ٢٢٩ ، أوضح المسالك ١ / ٣٣٠ ، الجنى الداني ص ٤٦٦ ، الخزانة ٥ / ٣٦٣ ، الخصائص ٣ / ٥ ، رصف المباني ص ٢٤٩ ، شرح المفصل ٣ / ١٠ ، ١١٨ ، المقتضب ٣ / ٧٢ ، المقرب ١ / ١٠١.
(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٢٣.
(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٢٣.