قال القفّال (١) ـ رحمهالله تعالى ـ ويدلّ على ذلك : أنّ ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار ، وفي هذه الآية بسط شديد ؛ ألّا ترى أنّه قال تعالى (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) ، ثم قال ثانيا : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) ، ثم قال ثالثا : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ) ، فكان هذا كالتّكرار لقوله : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) ؛ لأنّ العدل هو ما علّمه الله ، ثم قال رابعا : «فليكتب» وهذا إعادة للأمر الأول ؛ ثم قال خامسا : «فليملل (الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) وفي قوله : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) كفاية عن قوله : «فليملل (الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) ؛ لأنّ الكاتب بالعدل إنّما يكتب ما يملّ عليه ، ثم قال سادسا : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) ، وهذا تأكيد ، ثم قال سابعا : (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) ، وهذا كالمستفاد من قوله : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) ، ثم قال ثامنا : «ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله» ، وهو أيضا تأكيد لما مضى ، ثم قال تاسعا : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ ، وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) ، فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التّأكيدات السّالفة (٢) ، وكلّ ذلك يدلّ على المبالغة في التّوصية بحفظ المال الحلال ، وصونه عن الهلاك ؛ ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله ، والإعراض عن مساخط الله : من الرّبا ، وغيره ، والمواظبة على تقوى الله.
الوجه الثاني : قال بعض المفسرين (٣) : إنّ المراد بهذه المداينة «السّلم» فإن الله تبارك وتعالى لما منع من الرّبا في الآية المتقدّمة ؛ أذن في السّلم في هذه الآية ، مع أنّ جميع المنافع المطلوبة من الرّبا حاصلة في السّلم ، وبهذا قال بعض العلماء : لا لذّة ، ولا منفعة يوصل إليها بالطّريق الحرام ، إلا والله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ سبحانه وتعالى ـ وضع لتحصيل تلك اللّذّة طريقا حلالا ، وسبيلا مشروعا.
فصل
قال سعيد بن المسيّب : بلغني أنّ أحدث القرآن بالعرش آية الدّين (٤).
التداين تفاعل من الدّين كتبايع من البيع ، ومعناه : داين بعضكم بعضا ، وتداينتم : تبايعتم بدين.
يقال : داينت الرجل أي : عاملته بدين ، وسواء كنت معطيا ، أم آخذا ؛ قال رؤبة : [الرجز]
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٩٤.
(٢) في ب : السابقة.
(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٩٤.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٦) عن سعيد بن المسيب وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٥٤) وعزاه للطبري.