فقال ابن عطيّة : إنّ محلّها الرّفع صفة «لامرأتين» ، وكان قد تقدّم أنّ قوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) صفة لقوله (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) قال أبو حيان (١) ـ رحمهالله ـ : «فصار نظير جاءني رجل ، وامرأتان عقلاء حبليان» وفي جواز مثل هذا التّركيب نظر ، بل الّذي تقتضيه الأقيسة تقديم «حبليان» على «عقلاء» ؛ وأمّا إذا قيل بأنّ «ممّن ترضون» بدل من رجالكم ، أو متعلّق باستشهدوا ، فيتعذّر جعله صفة لامرأتين للزوم الفصل بين الصّفة ، والموصوف بأجنبيّ. قال شهاب الدين ـ رحمهالله ـ : وابن عطيّة لم يبتدع هذا الإعراب ، بل سبقه إليه الواحديّ فإنه قال : وموضع الشّرط وجوابه رفع بكونهما ، وصفا للمذكورين وهما «امرأتان» في قوله : (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) لأنّ الشّرط والجزاء يوصف بهما ، كما يوصف بهما في قوله (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ) [الحج : ٤١].
والظاهر أنّ هذه الجملة الشّرطية مستأنفة للإخبار بهذا الحكم ، وهي جواب لسؤال مقدّر ، كأنّ قائلا قال : ما بال امرأتين جعلتا بمنزلة رجل؟ فأجيب بهذه الجملة.
وأمّا القراءة الثّانية ؛ ف «أن» فيها مصدريّة ناصبة للفعل بعدها ، والفتحة فيه حركة إعراب ، بخلافها في قراءة حمزة ، فإنها فتحة التقاء ساكنين ، إذ اللام الأولى ساكنة للإدغام في الثّانية ، مسكّنة للجزم ، ولا يمكن إدغام في ساكن ، فحرّكنا الثّانية بالفتحة هربا من التقائهما ، وكانت الحركة فتحة ؛ لأنّها أخفّ الحركات ، وأن وما في حيّزها في محلّ نصب ، أو جرّ بعد حذف حرف الجرّ ، وهي لام العلّة ، والتّقدير : لأن تضلّ ، أو إرادة أن تضلّ.
وفي متعلّق هذا الجارّ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّه فعل مضمر دلّ عليه الكلام السّابق ، إذا التّقدير : فاستشهدوا رجلا وامرأتين لئلا تضلّ إحداهما ، ودلّ على هذا الفعل قوله : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ ، فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) ، قاله الواحديّ ولا حاجة إليه ؛ لأنّ الرّافع لرجل وامرأتين مغن عن تقدير شيء آخر ، وكذلك الخبر المقدّر لقولك : (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) إذ تقدير الأول : فليشهد رجل ، وتقدير الثاني : فرجل وامرأتان يشهدون ؛ لأن تضلّ ، وهذان التّقديران هما الوجه الثّاني والثّالث من الثّلاثة المذكورة. فإن قيل هل جعل ضلال إحداهما علّة لتطلّب الإشهاد أو مرادا لله تعالى ، على حسب التقديرين المذكورين أولا؟ وقد أجاب سيبويه (٢) رحمهالله وغيره بأن الضلال لمّا كان سببا للإذكار ، والإذكار مسبّبا عنه ، وهم ينزّلون كلّ واحد من السبب والمسبّب منزلة الآخر لالتباسهما ، واتّصالهما كانت إرادة الضّلال المسبّب عنه الإذكار إرادة للإذكار. فكأنه قيل : إرادة أن تذكّر إحداهما الأخرى إن ضلّت ، ونظيره قولهم : «أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، وأعددت السّلاح أن يجيء عدوّ
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٦٥.
(٢) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ٤٣٠.