فصل
قال القرطبيّ (١) : لما جعل الله تعالى شهادة امرأتين بدل شهادة رجل ؛ وجب أن يكون حكمهما حكمه ، فكما له أن يحلف مع الشّاهد عندنا ، وعند الشّافعي ، كذلك يجب أن يحلف مع شهادة امرأتين بمطلق هذه العوضيّة ، وخالف في هذا أبو حنيفة ، وأصحابه ، فلم يروا اليمين مع الشّاهد.
قالوا : لأنّ الله تعالى قسم الشّهادة ، وعددها ، ولم يذكر الشّاهد مع اليمين ، فلا يجوز القضاء به ؛ لأنّه يكون قسما ثالثا على ما قسّمه الله ، وهذه زيادة على النّصّ ، فيكون نسخا ، وهذا قول الثّوري ، والأوزاعي والحكم بن عتيبة وطائفة.
قال بعضهم : الحكم باليمين مع الشّاهد منسوخ بالقرآن ، وزعم عطاء أنّ أوّل من قضى به عبد الملك بن مروان.
وقال الحكم : القضاء باليمين والشّاهد بدعة ، وهو كلّه غلط ، وليس في قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) الآية ما يرد به قضاء رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ باليمين ، والشاهد ؛ ولا أنّه لا يتوصل إلى الحقوق إلّا بما ذكر فيها لا غير ، فإنّ ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطّالب ، فإن ذلك يستحقّ به المال إجماعا ، وليس هو في الآية ، مع أنّ الخلفاء الأربعة : قضوا بالشّاهد واليمين ، وقضى به أبيّ بن كعب ، ومعاوية وشريح وعمر بن عبد العزيز ، وكتب به إلى عمّاله ، وإياس بن معاوية ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو الزّناد وربيعة.
قال مالك : أترى هؤلاء تنقض أحكامهم ، ويحكم ببدعتهم مع ما روى ابن عباس أنّ النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : قضى بالشّاهد مع اليمين (٢).
قوله : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ) مفعوله محذوف لفهم المعنى ، أي : لا يأبون إقامة الشهادة ، وقيل : المحذوف مجرور لأن «أبي» بمعنى امتنع ، فيتعدّى تعديته أي من إقامة الشهادة.
قوله «إذا ما دعوا» ظرف ل «يأب» أي : لا يمتنعون في وقت [دعوتهم] لأدائها ، أو لإقامتها ، ويجوز أن تكون [متمحضة للظرف ، ويجوز أن تكون] شرطية والجواب محذوف أي : إذا دعوا فلا يأبوا.
__________________
(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٥٣.
(٢) أخرجه مسلم (٥ / ١٢٨) وأبو داود (٣٦٠٨) وابن ماجه (٢٣٧٠) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ٢٨٠) وابن الجارود (١٠٠٦) والبيهقي (١٠ / ١٦٧) والشافعي (٢ / ١٤٠) وأحمد (١ / ٢٤٨ ، ٣١٥ ، ٣٢٣) من طريق عمرو بن دينار عن ابن عباس به.