فهذا التّثليث إمّا أن يكون لاعتقادهم وجود صفات ثلاثة أو لاعتقادهم وجود ذوات ثلاثة.
والأول باطل ؛ لأن المفهوم من كونه تعالى عالما غير المفهوم من كونه قادرا ، ومن كونه حيّا ، وإذا كانت هذه المفهومات الثّلاثة لا بدّ من الاعتراف بها كان القول بإثبات صفات ثلاثة من ضرورات دين الإسلام ، فكيف يمكن تكفير النّصارى بسبب ذلك ؛ ولمّا بطل ذلك علمنا أنّه تعالى إنّما كفّرهم ؛ لأنّهم أثبتوا ذواتا ثلاثة قديمة مستقلّة ؛ وذلك لأنهم جوّزوا في أقنوم الكلمة أن يحلّ في عيسى ، والأقنوم عندهم عبارة عن حقيقة الشّيء ، وجوّزوا في أقنوم الحياة أن يحلّ في مريم ، ولولا أنّ هذه الأشياء المسمّاة عندهم بالأقانيم ذوات قامة بأنفسها ؛ لمّا جوّزوا عليه الانتقال من ذوات إلى ذات ، فثبت أنهم قائلون بإثبات ذوات قائمة بالنّفس قديمة أزليّة ، وهذا شرك. وإذا ثبت دخولهم تحت اسم الشّرك ، فاليهود كذلك إذ لا قائل بالفرق.
ورابعها : أنّه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أمّر أميرا ، وقال : إذا لقيت عدوّا من المشركين ؛ فادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك ، فاقبل منهم وكفّ عنهم ، وإن أبوا ، فادعهم إلى الجزية ، وعقد الذّمّة» (١).
وخامسها : قال أبو بكر الأصمّ (٢) : كلّ من جحد الرّسالة ، والمعجزة ، فهو مشرك ؛ لأن تلك المعجزات إنّما ظهرت عن الله تعالى ، وكانوا يضيفونها إلى الجنّ والشّياطين ، ويقولون : إنّها سحر ، فقد أثبتوا لله شريكا في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر.
وقال أبو الحسن بن فارس : هم المشركون ؛ لأنّهم يقولون : القرآن كلام غير الله ، فقد أشركوا مع الله غير الله.
فإن قيل : إنّه تعالى فصل بين القسمين ، وعطف أحدهما على الآخر في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) [البقرة : ٦٢] وقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [الحج : ١٧] وقال : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) [البقرة : ١٠٥] وذلك يوجب التّغاير.
والجواب أنّ هذا كقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧] وكقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] فإن قالوا : إنّما خصّ بالذّكر تنبيها على كمال الدّرجة في ذلك الوصف.
__________________
(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٣٥٧) كتاب الجهاد : باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث حديث (٣ / ١٧٣١) وأبو داود (٣ / ٣٧) كتاب الجهاد : باب في دعاء المشركين (٢٦١٢) والشافعي في «المسند» (٢ / ١١٤ ـ ١١٥) والبيهقي (٩ / ١٥) والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ٥٤٥) من حديث بريدة بلفظ : إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم ...
ولفظ الشافي في «المسند» إذا لقيت عدوا من المشركين ... إلى آخره.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٤٩.