منتظمة فيها العلالي المنيفة والقصاب المشرفة قد تفتحت كلها طيقانا ، وكل برج منها مسكون ، وداخلها المساكن السلطانية والمنازل الرفيعة الملوكية.
وأما البلد فموضعه ضخم جدا حفيل التركيب بديع الحسن واسع الأسواق كبيرها ، متصلة الانتظام مستطيلة تخرج من سماط صنعة إلى سماط صنعة أخرى إلى أن تفرغ من جميع الصناعات المدنية ، وكلها مسقف بالخشب فكأنها في ظلال وارفة ، فكل سوق منها تقيد الأبصار حسنا وتستوقف المستوفز تعجبا. وأما قيساريتها فحديقة بستان نظافة وجمالا ، مطيفة بالجامع المكرم لا يتشوق الجالس فيها مرأى سواها ولو كان من المرائي الرياضية ، وأكثر حوانيتها خزائن من الخشب البديع الصنعة قد اتصل السماط خزانة واحدة وتخللتها شرف خشبية بديعة النقش ، وتفتحت كلها حوانيت فجاء منظرها أجمل منظر ، وكل سماط منها يتصل بباب من أبواب الجامع المكرم.
وهذا الجامع من أحسن الجوامع وأجملها ، قد أطاف بصحنه الواسع بلاط كبير متسع مفتح كله أبوابا قصرية الحسن إلى الصحن عددها ينيف عن الخمسين بابا فيستوقف الأبصار حسن منظرها. وفي صحنه بئران معينتان ، والبلاط القبلي لا مقصورة فيه فجاء ظاهر الاتساع رائق الانشراح ، وقد استفرغت الصنعة القرنصية جهدها في منبره (١) فما أرى في بلد من البلاد منبرا على شكله وغرابة صنعته ، واتصلت الصنعة الخشبية منه إلى المحراب فتجللت صفحاته كلها حسنا على تلك الصفة الغريبة وارتفع كالتاج العظيم على المحراب وعلا حتى اتصل. بسمك السقف ، وقد قوس أعلاه وشرف بالشرف الخشبية القرنصية ، وهو مرصع كله بالعاج والآبنوس ، واتصال الترصيع من المنبر إلى المحراب مع ما يليهما من جدار القبلة دون أن يتبين بينهما انفصال فتجتلي العيون منه أبدع منظر يكون في الدنيا. وحسن هذا الجامع المكرم أكثر من أن يوصف.
ويتصل به من الجانب الغربي مدرسة للحنفية تناسب الجامع حسنا واتقان صنعة ، فيها في الحسن روضة تجاور أخرى ، وهذه المدرسة من أحفل ما شاهدناه من المدارس بناء وغرابة صنعة. ومن أظرف ما يلحظ فيها أن جدارها القبلي مفتح كله بيوتا وغرفا لها طيقان يتصل بعضها ببعض ، وقد امتد بطول الجدار عريش كرم مثمر عنبا ، فحصل لكل طاق
__________________
(١) سيأتي الكلام على هذا المنبر والمنبر الذي حمل من حلب إلى القدس في حوادث سنة ٥٨٣.