ولما ملك السلطان مدينة حلب في صفر سنة تسع وسبعين وخمسمائة أعطاها لولده الظاهر غازي ، ثم أخذها منه وأعطاها للملك العادل ، فانتقل إليها وقصد قلعتها يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رمضان من السنة المذكورة ، ثم نزل عنها للملك الظاهر غازي بن السلطان لمصلحة وقع الاتفاق عليها بينه وبين أخيه صلاح الدين ، وخرج منها في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة ليلة السبت الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول ، ثم أعطاه السلطان قلعة الكرك ، وتنقل في الممالك في حياة السلطان وبعد وفاته ، وآخر الأمر أنه استقل بمملكة الديار المصرية وخطب له بحلب يوم الجمعة حادي عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وملك معها البلاد الشامية والشرقية وصفت له الدنيا ، ثم ملك بلاد اليمن في سنة اثنتي عشرة وستمائة ، وكان ملكا عظيما ذا رأي ومعرفة تامة قد حنكته التجارب ، حسن السيرة جميل الطوية وافر العقل حازما في الأمور صالحا محافظا على الصلوات في أوقاتها متبعا لأرباب السنة مائلا إلى العلماء ، حتى صنف له فخر الدين الرازي كتاب تأسيس التقديس وذكر اسمه في خطبته وسيره إليه من بلاد خراسان ، وكان بالغالب يصيف بالشام لأجل الفواكه والثلج والمياه الباردة ويشتي في الديار المصرية لاعتدال الوقت فيها وقلة البرد. وعاش في أرغد عيش ، وكان يأكل كثيرا خارجا عن المعتاد ، حتى يقال إنه كان يأكل وحده خروفا لطيفا مشويا ، وكان له في النكاح نصيب وافر ، وحاصل الأمر أنه كان ممتعا في دنياه ، وكانت ولادته بدمشق سنة أربعين وخمسمائة وتوفي سنة خمس عشرة وستمائة ، ودفن بالقلعة ثاني يوم وفاته ، ثم نقل إلى مدرسته المعروفة به (هي التي اتخذها الآن المجمع العلمي العربي بدمشق مقرا له وأسس فيها مكتبة ومتحفا) ودفن في التربة التي بها ، وقبره على الطريق يراه المجتاز من الشباك المركب هناك رحمهالله.
سنة ٥٨٣
ذكر فتح البيت المقدس وحمل المنبر إليه من حلب
في هذه السنة في رجب فتح السلطان صلاح الدين رحمهالله البيت المقدس ، وقد كان أخذ من المسلمين سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة ، فيكون مدة بقائه في أيديهم إحدى وتسعين سنة. وبسط ابن الأثير وصاحب الروضتين الأخبار في ذلك.
قال ابن الأثير : وصلى المسلمون فيه الجمعة ومعهم صلاح الدين وصلى في قبة الصخرة ، وكان الخطيب والإمام محيي الدين محمد بن أبي الحسن بن الزكي قاضي