وارتفعت الأصوات وقوي الضجيج إلى آخر اليوم المذكور ، وأخذ البلد دون القلعتين وغنم الناس منه غنيمة عظيمة ، فإنه كان بلد التجار ، ففرق بين الناس الليل وهجومه وأصبح يوم الجمعة مقاتلا مجتهدا في أخذ النقوب وأخذت النقوب من شمالي القلاع وتمكن منها النقب حتى بلغ طوله على ما حكى لي من ذرعه ستين ذراعا وعرضه أربعة أذرع ، واشتد الزحف عليهم حتى صعد الناس الجبل وقاربوا السور وتواصل القتال حتى صاروا يتحاذفون بالحجارة باليد ، فلما رأى عدو الله ما حل بهم من الصغار والبوار استغاثوا بطلب الأمان عشية الجمعة الخامس والعشرين من الشهر ، وطلبوا قاضي جبلة يدخل إليهم ليقرر لهم الأمان فأجيبوا إلى ذلك ، وكان رحمهالله متى طلب منه الأمان لا يبخل به رفقا ، فعاد الناس عنهم إلى خيامهم وقد أخذ منهم التعب فباتوا إلى صبيحة السبت ، ودخل قاضي جبلة إليهم واستقر الحال معهم على أنهم يطلقون بنفوسهم وذراريهم خلا الغلال والذخائر وآلات السلاح والدواب ، وأطلق لهم دواب يركبونها إلى مأمنهم ورقي عليها العلم الإسلامي المنصور في بقية ذلك اليوم ، وأقمنا عليها إلى السابع والعشرين اه.
قال ابن الأثير : وكانت عمارة اللاذقية من أحسن الأبنية وأكثرها زخرفة مملوءة بالرخام على اختلاف أنواعه ، فخرب المسلمون كثيرا منها ونقلوا رخامها وشعثوا كثيرا من بيعها التي قد غرم على كل واحدة منها الأموال الجليلة المقدار ، وسلمها إلى ابن أخيه تقي الدين عمر فعمرها وحصن قلعتها ، حتى إذا رآها اليوم من رآها ينكرها فلا يظن أن هذه تلك. وكان عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة الوافرة عليها كما فعل بقلعة حماة اه.
ذكر فتح صهيون
قال القاضي ابن شداد : رحل السلطان عن اللاذقية طالبا صهيون ، واستدارت العساكر بها من سائر نواحيها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى ، ونصب عليها ستة مجانيق وهي قلعة حصينة منيعة في طرف جبل ، خنادقها أودية هائلة واسعة عميقة ، وليس لها خندق محفور إلا من جانب واحد مقدار طوله ستون ذراعا أو أكثر ، وهو نقر في حجر ، ولها ثلاثة أسوار : سور دون ربضها وسور دون القلعة وسور القلعة. وكان على قلعتها علم منصوب ، فحين أقبل العسكر الإسلامي شاهدته قد وقع فاستبشر المسلمون بذلك وعلموا أنه النصر والفتح. واشتد القتال عليها من الجوانب فضربها بمنجنيق الملك الظاهر صاحب حلب ، وكان نصب منجنيقا قريبا من سورها فقطع الوادي ، وكان