سنة ٥٨٠
ذكر وصف الرحالة أبي الحسين محمد بن أحمد بن جبير
الكناني الأندلسي لما مرّ به من هذه الديار في هذه السنة
قال في وصفه لمدينة حران :
بلد لا حسن لديه ولا ظل يتوسط برديه ، قد اشتق من اسمه هواؤه فلا يألف البرد ماؤه ، ولا تزال تتقد بلفح الهجير ساحاته وأرجاؤه. ولا تجد فيه مقيلا ولا تنفس منه إلا نفسا ثقيلا. قد نبذ بالعراء ، ووضع في وسط الصحراء ، فعدم رونق الحضارة ، وتعرت أعطافه من ملابس النضارة. أستغفر الله كفى بهذا البلد شرفا وفضلا أنها البلدة العتيقة المنسوبة لأبينا إبراهيم صلىاللهعليهوسلم ، وله بقبليها بنحو ثلاثة فراسخ مشهد مبارك فيه عين جارية كان مأوى له ولسارة صلوات الله عليها ومتعبدا لهما. ببركة هذه النسبة قد جعل الله هذه البلدة مقرا للصالحين المتزهدين ومثابة للسائحين المتبتلين ، لقينا من أفرادهم الشيخ أبا البركات حيان ابن عبد العزيز حذاء مسجده المنسوب إليه ، وهو يسكن منه في زاوية بناها في قبلته ، وتتصل بها في آخر الجانب زاوية لابنه عمر قد التزمها وأشبه طريقة أبيه فما ظلم ، وتعرفت منه شنشنة أعرفها من أخزم ، فوصلنا إلى الشيخ وهو قد نيف على الثمانين فصافحنا ودعا لنا وأمرنا بلقاء ابنه عمر المذكور من رجال الآخرة ، ولقينا أيضا بمسجد عتيق الشيخ الزاهد سلمة فلقينا رجلا من الزهاد الأفراد فدعا لنا وسألنا وودعناه وانصرفنا. وبالبلد سلمة آخر يعرف بالمكشوف الرأس لا يغطي رأسه تواضعا لله عزوجل حتى عرف بذلك ، ووصلنا إلى منزله فأعلمنا أنه خرج للبرية سائحا. وبهذه البلدة كثير من أهل الخير وأهلها هينون معتدلون محبون للغرباء مؤثرون للفقراء ، وأهل هذه البلاد من الموصل لديار بكر وديار ربيعة إلى الشام (١) على هذا السبيل من حب الغرباء وإكرام الفقراء ، وأهل قراها كذلك فما يحتاج الفقراء الصعاليك معهم زادا. لهم في ذلك مقاصد في الكرم مأثورة. وشأن أهل هذه البلاد في هذا السبيل عجيب والله ينفعهم بما هم عليه.
__________________
(١) كان مجيئه من بغداد إلى الموصل إلى هذه البلاد.