صائب الحجر فلم يزل يضربها حتى هدم من السور قطعة عظيمة يمكن الصاعد في السور الترقي إليه منها. ولما كان بكرة الجمعة ثاني جمادى الآخرة عزم السلطان وتقدم وأمر المنجنيقات أن تتوالى بالضرب ، وارتفعت الأصوات وعظم الضجيج بالتكبير والتهليل ، وما كان إلا ساعة حتى رقي المسلمون على الأسوار التي للربض واشتد الزحف وعظم الأمر وهاجم المسلمون الربض. ولقد كنت أشاهد الناس وهم يأخذون القدور وقد استوى فيها الطعام فيأكلونها وهم يقاتلون ، وانضم من كان في الربض إلى القلعة ويحملون ما أمكنهم أن يحملوا من أموالهم ونهب الباقي ، واستدارت المقاتلة حول أسوار القلعة ، ولما عاينوا الهلاك استغاثوا بطلب الأمان ، ووصل خبرهم إلى السلطان فبذل الأمان وأنعم عليهم على أن يسلموا بأنفسهم وأموالهم ويؤخذ من الرجل منهم عشرة دنانير وعن المرأة خمسة وعن الصغير ديناران. وسلمت القلعة وأقام السلطان عليها حتى سلم عدة قلاع كالعيد وفيحة وبلاطينوس وغيرها من القلاع والحصون تسلمها النواب اه.
وقال ابن الأثير : رحل صلاح الدين عن اللاذقية في السابع والعشرين من جمادى الأولى وقصد قلعة صهيون ، وهي قلعة منيعة شاهقة في الهواء صعبة المرتقى على قرنة جبل ، يطيف بها واد عميق فيه ضيق في بعض المواضع بحيث إن حجر المنجنيق يصل منه إلى الحصن ، إلا أن الجبل متصل بها من جهة الشمال ، وقد عملوا لها خندقا عميقا لا يرى قعره وخمسة أسوار منيعة ، فنزل صلاح الدين على هذا الجبل الملتصق بها ونصب عليه المنجنيقات ورماها ، وتقدم إلى ولده الظاهر صاحب حلب فنزل على المكان الضيق من الوادي ونصب عليه المنجنيقات أيضا فرمى الحصن منه ، وكان معه من الرجّالة الحلبيين كثير وهم في الشجاعة بالمنزلة المشهورة ، ودام رشق السهام من قسي اليد والجرخ والزنبورك والزيار ، فجرح أكثر من بالحصن وهم يظهرون التجلّد والامتناع ، وزحف المسلمون إليهم ثاني جمادى الآخرة فتعلقوا بقرنة من ذلك الجبل قد أغفل الفرنج إحكامها فتسلقوا منها بين الصخور حتى التحقوا بالسور الأول فملكوا منها ثلاثة وغنموا ما فيها من أبقار ودواب وذخائر وغير ذلك ، واحتمى الفرنج بالقلة التي للقلعة فقاتلهم المسلمون عليها ، فنادوا وطلبوا الأمان فلم يجبهم صلاح الدين عليه ، فقرروا على أنفسهم مثل قطيعة البيت المقدس ، وتسلم الحصن وسلمه إلى أمير يقال له منكو برس صاحب قلعة أبي قبيس فحصنه وجعله من أحصن الحصون.