يقاس ما فيه نصّ على ما لا نصّ فيه بل العكس.
وأجيب الجبّائي بوجهين :
__________________
التثنية كما وضعته للمخاطب والغائب فليس للاثنين إذا عبرا عن أنفسهما إلا الإتيان بضمير الجمع وذكر إمام الحرمين أيضا أن الخلاف ليس في مثل قوله تعالى : فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وقول القائل ضربت رؤوس الرجلين ووطئت بطونهما ، وفيه نظر يأتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى.
فالخلاف إنما هو في صيغ الجموع سواء أكانت جمع سلامة أو جمع تكسير ، وفي عود الضمير البارز بصيغة الجمع أيضا.
وللعلماء في ذلك قولان مشهوران :
أحدهما : «أن أقل الجمع اثنان» رواه الحاكم في مستدركه عن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يقول : الإخوة في كلام العرب أخوان فصاعدا. وروى نحوه عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أيضا ، والظاهر أنهما ما أرادا إلا بطريق الحقيقة وإلى هذا ذهب جماعة ، منهم : داود الظاهري والقاضي أبو بكر ابن الباقلاني ، والأستاذ أبو إسحق والإمام الغزالي ، وطائفة من الشافعية وحكاه القاضي أبو بكر عن مذهب مالك وأخذه ابن خويز منداد من قوله في حجب الأم إلى السدس بأخوين ، وهو قول عبد الملك بن الماجشون وأبي الحسن اللخمي من المالكية ، ونسبه بعضهم إلى الخليل وسيبويه ؛ لأن سيبويه قال : سألت الخليل عن قولهم ما أحسن وجوههما فقال : اثنان جمع ، وعزاه بعضهم إلى عثمان ـ رضي الله عنه ـ ، وليس كذلك ، بل مقتضى النقل الموافقة على أن أقله ثلاثة وهذا هو القول الثاني ؛ ففي كتاب المستدرك للحاكم وغيره بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل على عثمان رضي الله عنه فقال : إن الأخوين لا يردّان الأم عن الثلث قال الله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) والأخوان بلسان قومك ليسا بإخوه فقال عثمان ـ رضي الله عنه ـ : لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي وتوارث به الناس ومضى في الأمصار ، فمقتضى هذا أن عثمان وافق على أن أقل الجمع ثلاثة بطريق الحقيقة ، وقد ذكر إمام الحرمين وغيره أن هذا أيضا مقتضى قول ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ؛ أخذا لذلك من قوله : إن الاثنين يقفان عن يمين الإمام وشماله وإذا كانوا ثلاثة اصطفوا خلفه ، وفي ذلك نظر ، لأن ابن مسعود عنده أن الجماعه تحصل بالإمام والمأموم فقط ، وإنما مأخذه في وقوف الاثنين والثلاثة رؤية ذلك عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولم يبلغه خلافه. وأيضا فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه ـ : إن الاثنين يردّان الأم من الثلث إلى السدس ، فنسبة القول الأول إليه من هذا أقرب من نسبة القول الثاني أخذا من مسألة المأمومين. قال إمام الحرمين ومذهب الإمام الشافعي ـ (رضي الله عنه) ـ في مواضع تعرضه للأصول يشير إلى هذا ، يعني : أن أقل الجمع ثلاثة ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وجماعة المعتزلة ، والأكثرين من أصحاب الشافعي ـ رحمهمالله ، قلت : وذكر القاضي عبد الوهاب : أنه مذهب مالك وجمهور أصحابه وأخذه المازري من قول مالك فيمن أقر بدراهم أنه يلزمه ثلاثة ، وهو اختيار أبي بكر ابن فورك وغيره من الأشعرية.
ثم اختلف هؤلاء في صحة إطلاقه على اثنين على وجه المجاز ، فقال قوم : لا يصحّ ذلك أصلا ، وقال المحققون : إنه يجوز التجوز به عن اثنين فقط ، وهو اختيار إمام الحرمين وابن الخطيب وأتباعه وابن الحاجب ، وتوقف الآمدي في ذلك على قاعدته ، ورأى إمام الحرمين أيضا أنه يصح التجوز به عن الواحد ، لا من حيث أصل الاستعمال ، بل من جهة الانتهاء في تخصيص العام إلى واحد ، كما سيأتي بيانه في فوائد المسألة إن شاء الله تعالى.
ومذهب الحنابلة أيضا : أنه حقيقة في الثلاثة مجاز إن أريد به الاثنان ؛ كقول الشافعي وأبي حنيفة (رضي الله عنهما).